المسرح نوع أدبى نادر الوجود الآن؛ لا لمجرد تقلص فرص رواجه كسلعة فى السوق التجارية الثقافية نظراً لتراجع إقبال الجمهور على مشاهدته, بل لأن كتابته صعبة. أقصد كتابة مسرحية حقيقية؛ لأن من السهل كتابة شىء يحمل السمات الخارجية لعمل درامى، من المفترض أن يقدم على خشبة مسرح, أما المسرحية ذات القيمة الأدبية فتخلو من الثرثرة, وفيها تلخيص وتكثيف وتجريد الشعر، حين يكون شعراً..
لذلك فرحت بكتاب صغير صادر عن سلسلة «مسرح» التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب, يضم ثلاث مسرحيات قصيرة, ويحمل عنوان: «72 ساعة عفو ومسرحيتان», وشعرت بألفة مع مؤلفه وليد علاء الدين, رغم أنها المرة الأولى التى أطالع فيها اسمه وفعله الأدبى، رغم حصوله على جائزة الشارقة للإبداع الأدبى. مائة صفحة فيها كثافة العطر. أولها صورة شخصية للكاتب بعنوان «صورة يوسف», وآخرها تلخيص للحياة بعنوان «البحث عن العصفور», وفى المنتصف فانتازيا تدور حول بلد أعلن حاكمه عفواً لمدة 72 ساعة عن أى جريمة قتل تُرتكب فى البلاد، مطمئناً إلى عدله وإلى طبيعة شعبه المسالمة, ولكن الأمر بدأ يتحول لكابوس صحا منه لحسن الحظ فى المشهد الأخير، وعرفنا معه أن الأمر كله مجرد حلم.. أما المسرحية الأولى «صورة يوسف» فهى سيرة حياة رمزية سيريالية لكاتب - هو فى الغالب صورة خيالية من وليد علاء الدين نفسه - صهر فيها فى بوتقة نصه القصير الزاخر فعل الكتابة مع حكايات الحياة, فى حجرة محدودة المساحة لكنّ حوائطها تنعكس عليها ذكريات ساكنها: مثلاً خيبته فى الحب وفى إيجاد عمل يرتزق منه. ورغم ازدحام الحجرة بالذكريات وأطيافها, فإن قاطنها وحيد مغترب, لا تؤنسه إلا قطة تحت الشباك, يسمعها وهى تحاول الحصول على الماء والقوت فيطل عليها من شباكه, ويسجل فى دفتره ائتناسه بها, واغترابه وسط زحام الحياة, وزواج محبوبته من جارهما الغنى, والعرس الذى زفها إليه وحضره يوسف, ومسابقة تقدم إليها ليعمل مذيعاً فى التليفزيون.. كل ذلك وغيره نشاهده على جدران الحجرة العارية, باستخدام تقنية العرض السينمائى الحداثية أو خيال الظل التراثية أو بتواطئنا السيريالى مع خيال الكاتب حين تخرج من الحائط بعض الشخصيات لتتحدث معه..
وأما ذروة هذا الكتاب الصغير, المكثف كقنبلة يدوية, فهى ذلك التلخيص الجميل والموجع للحياة, الذى سماه علاء الدين «البحث عن العصفور». والعصفور هنا هو السعادة, أو بالأحرى مفهوم كل منا وتصوره للسعادة, الذى تنتفخ بموجبه بطون الأمهات حُبلى بالأمل, ويحدود ظهر الشاب ـ الذى كان ـ وينحنى على عصا يدب بها فى خطواته الأخيرة فى اتجاه كواليس الخروج من خشبة مسرح الوجود, بعد أن أفنى عمره فى البحث عن شىء وشوشته فأغوته به طفلة صارت شابة, فصار عصفورهما أو حلمهما المشترك. استطاع علاء الدين بمصباحه السحرى أن يصف الوجود الإنسانى, بمقعدين صغيرين لا ظهر لهما ولا متكأ للذراعين على خشبة مسرح عارية, يجلس عليهما شابان بلا اسم ولا هوية يتساءلان طول الوقت عن سبب وجودهما فى هذا المكان المُبهم, ويدبان أحياناً بقدميهما على خشبة المسرح صانعين إيقاع الزمن, ويدخل عليهما رجل وطفلة, يصيران عجوزا وشابة, يترجمان فعل الزمن: فالطفلة تصير امرأة حُبلى, والرجل الذى فى العنفوان يصير شيخاً ينحنى على العصا الذى كان يضرب بها الطفلة, وكلاهما يبحث عن العصفور ويتبادلان حوله الاتهامات والضرب بالعصا, بينما دقات أو تكتكات مرور الوقت يعلو صوتها وينخفض, ويتسارع إيقاعها ويُبطئ.. ويظل العصفور عصياً على الاصطياد.. أو حتى الرؤية!.