الأخبار
رجائى عطية
مدارات - باب العودة « ٢ ـ 4 »

الكفارات باب من أبواب فتحها الإسلام للتطهر من الذنوب والمعاصي، وكفالة انفتاح باب العودة والرجاء ليؤوب إليه مَنْ زلفت منه معصية تستوجب الكفارة للتطهر من ذنبها، وتنقية صفحات الذنب أولاً بأول، وتختلف الكفارة عن الفدية، في أن الكفارة تكفير عن معصية، بينما الفدية لقاء رخصة لا ذنب ولا معصية فيها.
وروعي في هذه الكفارات، التطهر من الذنوب كما في القتل الخطأ، وكما في ارتكاب أحد المحظورات في الصوم، كذلك في الحنث باليمين وبالنذر، وفي الظهار الذي كان مقابلاً للطلاق في الجاهلية، ونزلت في تجاوزه وتقرير كفارته الآيات الأولي من سورة المجادلة.
كفارة القتل الخطأ
الذي لا عمد فيه
قدر الإسلام أنه لا يكفي للسواء ـ مجرد استيفاء العقوبة التعزيرية كالحبس، عن الإهمال الذي أدي إلي القتل بغير عمد، لما سوف يلازم المخطئ من شعور بالوزر عن تسببه في إزهاق روح، وما يلازم أهل المجني عليه من إحساس باللوعة التي قد تدفع إلي عماء الانتقام، رغم أن الخطأ لا عمد فيه.
وتبعًا لهذا التقدير الحكيم، اعتبر القرآن أن القتل الخطأ من جرائم الدية التي لا تستوجب قصاصًا، واكتفي بهذه الدية ـ أي التعويض تطهيرًا للمخطئ، وجبرًا لخاطر ذوي المجني عليه، وحثهم في الوقت ذاته علي التصدق بها والعفو.
يقول تعالت حكمته: » وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَي أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَي أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا »‬ (النساء 92).. فالدية هنا هي الأصل، وهي من قبيل الكفارة التي يتطهر بها الجاني، وتكفكف في الوقت ذاته أحزان أهل القتيل، ونري أن الآية الكريمة جعلت الكفارة تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله. وسنت الدية تعويضًا وجبرًا للخواطر، إلاَّ أن يري أهل المجني عليه التصدق بها.
أما القتل العمد فلا كفارة له، وقد نوهت الآية (93) من سورة النساء إلي جسامة وزره، وأن جزاء الجاني جهنم خالدًا فيها، يبوء بغضب الله تعالي ولعنه إيّاه وبما أعدَّ له من عذاب عظيم .. وقد تكون الكفارة لما قد يصيب أعضاء البدن دون القتل، ففي الآية (45) من سورة المائدة ـ أن الجروح قصاص، وأن العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن ـ ثم فتحت باب الكفارة لتطبيب النفوس، وشجعت المعتدي عليه علي التجاوز عن حقه في الاقتصاص، واعدةً إيّا بأن ذلك تكفير وإزالة لما عساه يكون قد فرط منه من ذنوب.
كفارة الحنث في اليمين
وفي النَّذْر
وكفارة الحنث في اليمين المنعقدة، باب من أبواب تكفير الحانث عن معصيته، وهي فيما ورد بالآية (89) من سورة المائدة: إطعام عشرة من أوساط المساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، وتقول الآية الكريمة: »‬ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (المائدة 89).
وهذه الكفارة مداركة للحانث تكفل له التطهر من الذنب، وتفتح له باب العودة متطهرًا من الإثم، وتحثه وتشجعه من ثم علي التزام السواء .. ويجري ذلك، أيضا علي الحنث بالنذر الصحيح الذي حث القرآن الكريم علي الوفاء به فقال في وصف المؤمنين بأنهم »‬ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا » (الإنسان 7)، وتتساوي كفارة عدم الوفاء بالنذر مع كفارة الحنث في اليمين، ففي الحديث الشريف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: »‬ كفارة النذر كفارة يمين ».
وتتفق الكفارتان في الغاية منهما، بتطهير الحانث من المعصية، وفتح باب الرجاء أمامه ليمضي في التزام الصراط المستقيم.
كفارة الظهار
وراء تقرير كفارة الظهار قصة إنسانية عريضةً عميقة، لزوجة وأم عظيمة، رفضت يمين زوجها ابن عمها الذي ألقاه عليها بقوله: أنت عليَّ كظهر أمي، والظهار كان طلاقًا في الجاهلية، فذهبت الزوجة الأم العظيمة »‬ خولة بنت ثعلبة » ـ ذهبت إلي رسول الله عليه الصلاة والسلام تشكو إليه ما حاق بها، وتلح صابرة في نشدان الحل الذي لم يكن قد نزل فيه قرآن بعد، وظلت تحاوره عليه الصلاة والسلام كيف لا يجد لمشكلتها حلاًّ، وكيف يتنزل عليه القرآن ولا يوحي إليه بشيء في هذا، وجعلت تتردد علي الرسول وتلح في مجادلته، ليجد حلاًّ يحفظ له بيتها، وتقول له: »‬ وأولادنا يا رسول الله، إن ضمهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا »، وما برحت هذه الأم الرءوم علي جدالها وإلحاحها في طلب حل يحفظ لها بيتها وأولادها، ولا تقنط !
ويفاجأ عليه الصلاة والسلام بأنه تغشاه ما كان يتغشاه حين يتنزل عليه الوحي، وإذا به يتلقي عن جبريل عليه السلام قول الله تعالي: »‬ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ » (المجادلة 1).. وتتابعت آيات السورة التي سميت المجادلة بفتح الدال نسبة إلي فعل المجادلة، وكسرها نسبة إلي من جادلت، فتسِن الآيات التي نزل بها الوحي أحكام الظهار، للتحلل منه كفارة ـ من قبل أن يتماسا ـ تحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا .. للقصة تتمة رائعة عن الرحمة المحمدية التي أعانت هذه الأم علي أداء الكفارة لعجز زوجها عن الصيام وقد شاخ، وعدم امتلاكهما ما تحرر به رقبة أو تفي بالإطعام، وقد تحدثت عن ذلك باستفاضة في كتاب »‬ فيوض الإسلام » لمن يحب متابعة القصة وتفاصيل الأحكام القرآنية في معالجة الظهار .. ولكن الذي يعنينا هنا أن تقرير الكفارة للتحلل من الظهار، تتجلي فيه حكمة فتح باب الرجاء، أو باب العودة، ليحفظ للأسرة كيانها بالحلال، ويقيها من مغبة ما سبق إليه الظهار في ساعة غضب وغياب عقل !
الإفطار في رمضان بين الكفارة
عن المعصية والفدية عن الرخصة
صيام رمضان أحد أركان الإسلام الخمسة، واجب مفروض علي كل بالغ رشيد صحيح لا عذر له، فقال تعالي: »‬ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَي سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَي سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَي مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (البقرة 183 ـ 185).
بيد أن أداء الفريضة قد يستعصي أو يشق علي البعض، لعلَّة مؤقتة، أو دائمة، أو لا يعلم لميقاتها ميعاداً، فتدارك سبحانه وتعالي عباده بتيسيره ورحمته، ومدَّ لهم من توسعته ما يكفل لهم القضاء أو تكفي فيه الفدية، وأغاثهم بالكفارة ـ مع القضاء ـ لمن عساهم يقعوا في المحظورات بترك الصيام أو الوقوع فيما يفسده.
فالمفطر عمدًا بلا عذر، لا سبيل أمامه سوي القضاء قيامًا بواجب فريضته، والكفارة تكفيرًا عن معصيته وتطهرًا من ذنبه علي إفطاره عمدًا بغير رخصة، وهي ككفارة الظهار من حيث النوع والمقدار والترتيب.. أما إذا كان العذر مرضًا عارضًا غير مزمن، يرجي منه الشفاء، أو كان المكلف في حالة سفر توافرت شروطها، فإن عليه القضاء بلا كفارة ولا فدية.
أما إذا كان المكلف مريضًا بمرض مزمن لا يُرجي شفاؤه، أو طعن في السن ووهن وصار عاجزًا عن الصوم، أو كان عاملاً في عمل بالغ المشقة والإرهاق، ولا غناء له عنه، ولا رزق له سواه، ولا يطيق الصيام ولا يستطيعه، فقد رخصت له الآية الكريمة في الإفطار بفدية، بأن يطعم مسكينًا لا يجد قوت يومه، عن كل يوم من أيام إفطاره، بلا كفارة، وبلا قضاء ما دامت علله مزمنة لا برؤ منها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف