الأهرام
نيفين مسعد
النأى بالنفس فى السياق اللبنانى
كان رئيس الوزراء اللبنانى السابق نجيب ميقاتى أول من استخدم مصطلح «النأى بالنفس» إبان عهدته التى استمرت من يناير 2011 حتى مارس 2013، وكان يقصد بذلك الحفاظ على حياد لبنان إزاء الصراع الدائر فى سوريا بعدما تعسكر هذا الصراع واجتذب تدخلا من أطراف إقليمية عربية وغير عربية. وفى تبريره لسياسة الحياد المطلوبة قال ميقاتى ما معناه إن لبنان له رئتان إحداهما ترتبط بسوريا بحكم الجوار الجغرافى المباشر معها والأخرى ترتبط بالخليج العربى بحكم مئات الآلاف من العمالة اللبنانية فى دول الخليج، وبالتالى فإن الأوكسچين الذى يصل لبنان عبر هاتين الرئتين ضرورى لسلامته وبالأحرى لوجوده. هنا يلاحظ أن ميقاتى كان يشير بشكل غير مباشر إلى أن تورط لبنان فى الصراع السورى من شأنه الإخلال بتوازن علاقته الحيوية مع كل من السعودية وقطر من جهة وإيران من جهة أخرى وثلاثتها كانت تشتبك مع تطورات هذا الصراع فى تلك المرحلة. يُلاحظ أيضا أن حديث ميقاتى عن «النأى بالنفس» ارتبط بتحول لبنان من ساحة للتدخلات الإقليمية والدولية - كما يشهد بذلك تاريخه منذ الاستقلال - إلى طرف يمارس التدخل فى شئون الدول الأخرى نتيجة الامتدادات الإقليمية لبعض قواه السياسية الفاعلة، وهذا تطور مهم جدير بالمتابعة. وذلك أنه حتى عندما كان لبنان منطلقا للعمليات الفدائية التى نفذتها المقاومة الفلسطينية منذ نهاية الستينيات وحتى الاجتياح الإسرائيلى عام 1982 - كان الطرف المبادر بالاشتباك الخارجى طرف غير لبنانى أى منظمة التحرير الفلسطينية ، والأهم أن موضوع الاشتباك كان هو الصراع العربى -الإسرائيلى وليس شأنا داخليا كما هو الحال مع الصراع السوري.

وعندما تمت التسوية السياسية بين تيارى 8 و14 آذار فى عام 2016 وأوصلت ميشيل عون لرئاسة الجمهورية وسعد الحريرى لرئاسة الحكومة تضمن البيان الوزارى للحريرى ما نصه إن «لبنان السائر بين الألغام لا يزال بمنأى عن النار المشتعلة حوله فى المنطقة بفضل وحدة موقف الشعب اللبنانى وتمسكه بسلمه الأهلي. من هنا ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربية وبشكل خاص المادة الثامنة منه». وقد ذكّر الحريرى بهذا البيان فى المقابلة التليفزيونية التى أجرتها معه الإعلامية المرموقة بولا يعقوبيان حيث كرر مرارا التأكيد على ضرورة النأى بالنفس (قالها 19 مرة بالتمام والكمال) وطالب بتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية لأن مصلحة اللبنانيين تكمن فى التطلع للداخل.

ويفتح لنا حديث الحريرى ومن قبله ميقاتى عن سياسة «النأى بالنفس» الباب لتسجيل مجموعة من الملاحظات ذات الصِّلة، الملاحظة الأولى أن الحريرى عَظّم من أهمية هذه السياسة إلى حد جعلها تسبق موضوع سلاح حزب الله نفسه الذى هو فى صلب القضايا الخلافية بين 8 و14 آذار حتى أن بولا يعقوبيان حين سألته هل لو تحقق هذا النأى بيكفي؟ أجاب دون تردد «بيكفي»، وهذه إجابة ذكية لأنها تعنى بشكل غير مباشر ربط سلاح الحزب حصرا بمواجهة إسرائيل وليس بالتورط فى ساحات عربية مختلفة . الملاحظة الثانية أن الحريرى عوّل كثيرا على تفاهمه مع الرئيس عون من أجل إعادة الأمور لنصابها وتجديد الالتزام بالبيان الوزارى وهو أمر صعب، فمن الصحيح أن الرئيس عون ترك رئاسة التيار الوطنى الحر لزوج ابنته ووزير خارجيته جبران باسيل لكنه لم يترك موقعه السياسى كحليف لحزب الله، وهذا التحالف أوصل عون للسلطة وهو الضمانة الأساسية لاستقرار عهدة رئاسة الدولة. الملاحظة الثالثة أن الحريرى ميز بين التدخل الإيرانى فى لبنان لتوريطه فى صراعات اليمن وسوريا والبحرين وبين التدخل السعودى فى لبنان الذى يتوخى مصلحته الاقتصادية، وإذا استعدنا خطاب السيد حسن نصر الله يوم الجمعة الماضى لوجدناه قد قال نصا بعكس ذلك حين ذكر أن السعودية وإيران لهما نفوذ فى لبنان لكن السعودية تتدخل فى شأن لبنان الداخلى أما إيران فلا، وهذا غير صحيح كما نعلم. فى عالم السياسة لا توجد مساعدات اقتصادية دون أثمان سياسية، وغاية أى نفوذ سياسى التأثير فى عملية صنع القرار .

ما سبق يوضح لنا صعوبة أن ينأى لبنان بنفسه عن صراعات المنطقة طالما ارتبطت قواه الرئيسيّة بالأطراف المشتبكة فى تلك الصراعات ، وفى الأمد المنظور تبدو الساحة اليمنية هى الأكثر عُرضة للاشتعال من جملة التطورات المتلاحقة التى توالت عليها بدءا من التصعيد الصاروخى للحوثيين وانتهاء بحصار التحالف الدولى للمنافذ اليمنية. ولقد ذكر نصر الله ذلك بكل وضوح فى خطابه الأخير حين قال إن «موقفنا» من اليمن خارج الحسابات السياسية فهو موقف دينى وأخلاقى و«سنساءل» عنه أمام الله. وهذا يجعل البحث عن حل أزمة الرئيس الحريرى يبدأ من صنعاء وليس بيروت، ويوجب بالتالى تكثيف الجهود السياسية فى الفترة المقبلة من أجل تحريك الوضع اليمنى المتجمد، ويمكن لمصر أن تأخذ زمام المبادرة فى هذا الشأن فوساطتها مطلوبة لأن «نأيها» بالنفس عن سياسات المحاور الإقليمية موضع تقدير كبير.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف