محمد صابرين
مصر ليست «بندقية للإيجار»
من حين لآخر يعلو مناخ التحريض، ويسعى البعض من ذوى النيات الخبيثة لتعكير صفو العلاقات ما بين مصر ودول الخليج، خاصة مع السعودية، وهؤلاء الذين يعزفون بالأموال القطرية ووفقا لأجندة جماعة الأخوان لا يتوقفون عن محاولاتهم البائسة لدق إسفين فى علاقات مصر والخليج، فتارة هناك حديث عن «أوهام الزعامة»، و أخرى عن عدم «استقلال القرار المصري»، وفى كل مرة يثبت «سوء خطابهم» و«كذبهم الفاضح» إلا أن ذلك لا يمنعهم من العودة مع كل أزمة فى المنطقة لمحاولة الوقيعة، فقد ذهبت صحيفة «هافيج؛نتون بوست» ـ النسخة العربية ـ للتحريض بعنوان كاذب يقول «وحدتهم قطر وفرقتهم إيران.. السيسى يتخلى عن دعمه للرياض ويرفض الدخول فى حرب ضد حزب الله»، وهذه الصحيفة الإلكترونية الممولة من قطر وتعكس مؤامراتها ومؤامرات جماعة الاخوان لا تتوقف عن محاولة الوقيعة، سواء داخل مصر أو السعودية أو بقية دول الخليج، أو محاولة الوقيعة ما بين هذه الأكاذيب وما ذهبت إليه محطة دويتش فيله الألمانية فى تقريرها عن الأزمة الحالية، وذلك بعنوان معين إلى حد مهنى يقول »مصر ورهان الوساطة فى الصراع السعودى الإيراني».
ترى هل تغيرت «السياسة المصرية» فى رؤيتها لأوضاع المنطقة، والأهم هل تبدلت الأولويات المصرية، وهل تخلت القاهرة عن التزاماتها تجاه الاشقاء العرب خاصة فى الخليج، وهل من الوارد أن تبتعد مصر وتقترب من إيران مثلما فعلت قطر راعية الإرهاب.
وأحسب أن الاجابة القاطعة بقوة هى «لا»، بالتأكيد، وببساطة لأن مصر ملتزمة بأمن الخليج لأنه جزء من الأمن القومى المصري، كما أن إيران ليس لديها ما يمكن أن تقدمه لمصر.. فهى دولة متورطة فى نزاعات كثيرة، وأصبحت فى «دائرة الاشتباه» من قبل العديد من القوى الغربية الفاعلة وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، كما أنها لا تتمتع «بعلاقات مريحة» مع دول الجوار خاصة العربية. إذن ما هو الموقف المصرى الذى يعلن التزامه بالدفاع عن أمن الخليج من ناحية، ويرفض التصعيد العسكرى ضد إيران وحزب الله من ناحية أخري.
وأحسب أن القيادة السياسية المصرية أعلنت بوضوح الركائز الأساسية لسياسة مصر، التى يصفها البعض بأنها «حذرة» وآخرون »بالبراجماتية«، وأحسب أنها سياسة «أخلاقية وشريفة»، وواضحة الى الدرجة التى يعتقد معها المتلونون وأصحاب الضمائر الخربة أنها «تخفى أشياء» ولا يمكن أن تكون كذلك، إلا أن الأحداث أثبتت أن مصر تمتلك رصيدا ضخما من الحكمة و«الصبر الاستراتيجي» الذى ينصفها فى نهاية المطاف، ويثبت أنها »ناصح أمين« و«حليف مخلص»، وأن رؤيتها تحاول «الحفاظ على سلامة الدول الشقيقة» فى مواجهة «التحريض» المؤدى إلى التهلكة تمهيدا للتدخلات المدمرة؟!
ولقد قالت مصر أكثر من مرة إنه «لا حلول عسكرية» لأزمات المنطقة، والآن فى ظل تفجر الأزمة فى لبنان، وتصاعد التوتر مع حزب الله وإيران فإن القاهرة تحاول أن تقوم بدور «رجل المطافيء» لإطفاء الحرائق، ودعت القيادة المصرية الى تجنب نشوب حرب بين السعودية وإيران، ولقد رسم الرئيس السيسى جوهر السياسة المصرية بتأكيده: أولا: مصر ليست مع الحرب، ثانيا: أمن الخليج خط أحمر، ثالثا: أمن الخليج من أمن مصر، وأمن مصر من أمن الخليج، رابعا: أى مشكلة فى المنطقة سواء تعلقت بإيران أو حزب الله يجب التعامل معها بحذر، خامسا: مصر لا تريد اشكاليات أخرى ولا زيادة فى التحديات والاضطرابات الموجودة فى المنطقة،
سادسا: لست مع حل أى قضية بالحرب، ولنا تجربة فى الحرب.. والحروب دائما »تجربة مدمرة« ولها نتائج صعبة جدا.
سابعا: الوضع فى المنطقة لا يتحمل مزيدا من الاضطراب، وأحسب أن هذه الخلاصات السبع تمثل جوهر رؤية القيادة المصرية والتزاماتها تجاه الاشقاء وواجبها بوصفها تمثل بلدا كبيرا مثل مصر، تجاه استقرار المنطقة، ولقد أكد الرئيس السيسى هذه السياسة خلال حواراته الممتدة مع الشباب فى منتدى شباب العالم بشرم الشيخ، أو فى حواره مع قناة «سي. ان. بي. سي» الأمريكية على هامش أعمال المنتدي.
وإذا كان ذلك صحيحا وهو صحيح بالتأكيد فإن السؤال يثور بشأن هل مصر وحدها التى ترى أن المنطقة مضطربة، ولديها ما يكفى من الحرائق وليست بحاجة إلى «حريق آخر»، وهنا فإن الاجابة تأتى من أطراف عدة، ولعل الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما كان من الذين قالوا بصراحة أن «الحروب والفوضى فى الشرق الأوسط لن تنتهى حتى تتمكن إيران والسعودية من التعايش معا، والتوصل إلى سلام بارد»، وهذه كانت أبرز ما فى عقيدة أوباما التى شرحها فى حواره الشهير والصادم لمجلة «ذى أتلانتيك» الأمريكية خلال مارس 2016، وقد أثارت هذه التصريحات وقتها عاصفة من الانتقادات وموجة من الذهول نظرا لأنه كشف بوضوح عن أن بلاده لا ترى فى السعودية حليفا، ولقد كال الاتهامات للحلفاء والخصوم على حد سواء بأنهم يريدون توريط أمريكا فى «الصراعات الطائفية»، وبعد رحيل أوباما ومجيء ترامب فإن اللهجة تغيرت، إلا أن الجوهر ظل على خاله، وهو مثلما قال ترامب أمام القمة العربية الإسلامية الأمريكية فى الرياض إن واشنطن لن تخوض »حروب الآخرين« وأن على الدول العربية والإسلامية أن تخوض حروبها بنفسها.
وفى ضوء هذه التوضيحات الأمريكية. ترى هل الحكمة تقتضى الغوص فى رمال «الحروب بالوكالة»، أو الانجرار وراء التحريض الإسرائيلي.. وأحسب أن السعودية أذكى بتاريخها من الحكمة من أن يتم جرها إلى مثل هذا «الفخ».
وعند هذه النقطة تحديدا تبرز أهمية العلاقات المصرية السعودية، فليس خافيا على أحد »قوة ومتانة« هذه العلاقات، فقد أثبتت التجارب والأيام والأزمات أن القاهرة «أخ وحليف وشريك يمكن الاعتماد عليه والوثوق به»، كما أن مصر لم تتردد يوما فى تقديم كل ما لديها من »معلومات موثقة« عن المؤامرات« التي» تحاك ضد السعودية، أو أى محاولات لزرع الفتنة فى السعودية، وأحسب أن المرء لا يذيع سرا بالتأكيد أن الرياض تثق «ثقة مطلقة» فى أن لديها فى القاهرة »سندا وعونا« كبيرا وبلا حدود، وأن مصر سوف تقدم «المشورة الصادقة» التى تبتغى «الحفاظ على أمن واستقرار المملكة» لا تقديم «كلمات معسولة»، والأمر المؤكد أن القاهرة تفعل ذلك مع جميع الأشقاء فى الخليج والعالم العربى وبالأمس نجحت القاهرة فى تحقيق المصالحة بجنوب السودان، ومن قبلها تمكنت المخابرات العامة المصرية من تحقيق المصالحة بين فتح وحماس، كما تقوم المؤسسة العسكرية المصرية بجهود فى تحقيق المصالحة بين فرقاء ليبيا، وهذه الجهود المصرية تثبت «عودة مصر».
يبقى أن مصر صامدة ومثابرة، وجاءت من بعيد، بل من »أقرب نقطة إلى الفوضي، واستطاعت أن تجهض مشروع «الفوضى الخلاقة»، و«الفاشية الدينية» و«دعاة الحروب الطائفية»، و»الأجندات المشبوهة» لتجار الدين، وأن تحاصر «دويلة قطر»، وأن تفضح تآمرها على الجميع، والآن تعمل القاهرة مع الرياض من أجل «هزيمة الإرهاب»وتجفيف منابعه وتمويله، وتقديم خطاب دينى معتدل ومتسامح، ومشروع حقيقى للنهوض والحداثة، وأعتقد أن القاهرة سوف تتمكن فى النهاية من الحفاظ على أمن الخليج، وأن تجنب المنطقة حروبا جديدة وذلك من خلال «صوت العقل» القادم من القاهرة.