المصرى اليوم
وجية وهبة
دجل التنوير والتراجيديا
■ «وثيقة التنوير» التى أعلنت جامعة القاهرة عن إطلاقها، والتى أقرها مجلس الجامعة بعد أن أعدها مجلس «الثقافة والتنوير»، نشرتها صحيفة «الأهرام» يوم الخميس الماضى. صاحب نشر الوثيقة عدد من الصور الجماعية للسادة أعضاء «مجلس التنوير»، احتلت غالبية مساحة الصفحة، مما يذكرنا بطريقة تغطية المهرجانات السينمائية والفنية، فقد اعتدنا على تحويل كل القضايا الجادة إلى مهرجانات وكرنفالات ومجالس ومؤتمرات ولجان ووثائق وغير ذلك من مظاهر مكلفة، والناتج.. «ضجيج ولا طحن».

■ مع كل التقدير لذوات السيدات والسادة أعضاء «مجلس التنوير»ـ ومنهم من أعتز بصداقته- فإننى أرى أن وثيقتهم «التنويرية» المنشورة تعبر عن إيهام بالجدية، و«كليشيهات» و«رص كلام»، وأسلوب كتابة بعيد عن الأحكام اللفظى والفكرى، فضلا عن الإسهاب الممل، والاستغلاق على فهم معظم من يفترض أنهم مستهدفون من رسالتها «التنويرية»، إذ إن «جامعة القاهرة تضع الوثيقة أمام المجتمع ليشاركها فى تبنيها ونشرها من أجل تحقيق التقدم المأمول لوطننا». فهل يتبنى «المجتمع» هلاميات تجريدية؟، ألغازا تتناقض مع رأى رائد التنوير «كانط»، فى أهمية وضع الفلسفة لـ«عوام الناس» فى الاعتبار.

■ لن يحدث أى تقدم من أى نوع، لا مأمول ولا غير مأمول، طالما مازلنا نلجأ لاستخدام ذات الطرق والأساليب «الكرنفالية» المعتادة. هوجة وموالد تنفض بعد حين.

■ الوثيقة تتحدث عن أن التنوير هو «التفكير العقلى بشجاعة»، ولكنها لم تمارس تلك «الشجاعة»، فتذكر لنا تطبيقا واحدا لمفهومها هذا عن التنوير، واكتفت بالكلام والرطانة اللفظية.

■ الوثيقة تحاول أن تحاكى «الوثائق الفكرية» تارة، وتارة أخرى تحاكى المقالات الصحفية.

■منذ عدة عقود، كتب «ادورنو، ويوركهايمر» فى كتابهما «جدل التنوير»، يحذران من إعلام التنوير الخادع للجماهير. فكأنهما يحذران من «الدجل» الذى يحاصرنا الآن باسم إعلام التنوير.

■ ربما كان أجدى أن يصدر «مجلس التنوير والثقافة» وثيقة موجزة تتعلق بأحداث آنية.. بما دار من وقائع ظلامية خلال الأيام السابقة لاجتماعه، ولها تداعياتها. وثيقة تتكون من بندين لا غيرهما:

■ ١- المجلس يحذر من عاقبة إقرار قوانين تحت مسمى «ازدراء الرموز».

■ ٢ـ المجلس سوف يسعى بكل الطرق المشروعة نحو إلغاء مادة القانون المعروفة بـ«ازدراء الأديان».

■ بالتأكيد كان ذلك أو ما يشابهه يجعلنا ننظر إلى ذلك المجلس بطريقة أكثر جدية وتقديرا.

■ اللى «أوله ازدراء أديان» آخره «ازدراء رموز».

■ لا نغفل دور المؤسسات، سواء كانت حكومية أو أهلية، فى عملية التنوير، ولكننا نلحظ أن الدور الأكبر فى تاريخنا- الحديث والمتواضع- مع رحلة التنوير قد بدأ عبر أفراد وليس «مجالس تنوير». أفراد من أمثال قاسم أمين ولطفى السيد وسلامة موسى وطه حسين وآل عبدالرازق. هؤلاء الذين لم يعرف عنهم «الفساد»، ذلك الذى أصبح اليوم قرينا بالكثيرين من أبطال مشهد «التنوير المبتسر» الحالى.

■ ■ ■

■ اختزال مفهوم «التنوير» فى موقف من تفسير ودور الأديان هو اختزال مخل. فالتنوير بصفة عامة، و«الكانطى» بصفة خاصة، معنى برفع الوصاية عن العقل فى كل مجالات التفكير، ومنها المجال السياسى.

■ لا يختلف أنصار «السلفية الدينية» عن أنصار «السلفية السياسية»، فى آليات التفكير والعنف، وإن اختلفت الأسلحة. فيستوى من ينتفضون غضبا دفاعا عن «البخارى» و«صحيحه»، مع من ينتفضون غضبا دفاعا عن «ناصر» و«ميثاقه». فكلاهما لا يقبل التفكير النقدى.

■ فى مثل هذا اليوم منذ أربعين عاما «١٩ نوفمبر١٩٧٧» هبطت طائرة «السادات» فى مطار «بن جورين» بتل أبيب. خطوة السادات على أرض المطار شبهها بعض المراقبين فى ذلك الوقت- سياسياـ بخطوة أول رائد فضاء أمريكى على سطح القمر. ومن عاش المناخ السياسى فى تلك الآونة لا يتعجب من ذلك الوصف. كانت تلك الخطوة الشجاعة الجريئة زلزالا سياسيا بمعنى الكلمة، أربكت كل الحسابات والتوقعات. وأول من أربكتهم كان الإسرائيليون أنفسهم.

■ داهية المناورات السياسية «الميكافيلية»، منذ أن تولى المسؤولية بعد رحيل «عبدالناصر» وضع نصب عينيه هدفا واحدا لم يحد عنه، استعادة سيناء المحتلة. ناوأه وناوشه المعارضون من جميع التوجهات السياسية- وكنت من بينهم- شككوا فى قدرته ورغبته فى شن الحرب واستعادة الأراضى المحتلة. تحمل «رزالاتنا» وكظم غيظه كثيرا. فاجأ الجميع وشن الحرب المجيدة وعبرنا أهوال خط «بارليف» إلى سيناء. وكما قال «توفيق الحكيم»: «عبرنا الهزيمة». استعاد الجندى المصرى كرامته تلك التى كانت قد أضاعتها السياسات الغوغائية والقيادات غير المؤهلة، فى يونيو ٦٧.

■ كان ما حققه السادات فى حرب أكتوبر ٧٣ المجيدة يكفيه فخرا ومجدا، ليقتنع بما أنجزه وليستكمل إعادة بقية سيناء المحتلة من يأتى بعده. كان باستطاعته أن ينهج نهج زعماء النضال بالشعارات والكلمات الجوفاء التى تدغدغ الغرائز الدنيا لدى الشعوب المغلوبة على أمرها جهلا وفقرا. هؤلاء الزعماء الذين مازالت أرض بلادهم تحت الاحتلال بعد نصف قرن من احتلالها. ولكنه لم يفعل.

■ اختار السادات الطريق الأصعب، لأنه رجل لديه طموحات للإنجاز لا تتوقف، ما أشبهه بـ«يوليوس قيصر»، رجل له من الحنكة والشجاعة ما يمكنه من تصحيح مسار التاريخ وصناعته وتشكيله. خاض معركة السلام الأصعب، وبدهائه، استعاد كل شبر من أراضى بلاده.

■ كانت نهاية السادات على يد تيارات الإسلام المنظمة، هؤلاء الذين أطلق لهم العنان فى أوائل عهده بالرئاسة (اعترف بخطئه ذلك، فى آخر خطاباته قبل رحيله). وتكاد قصة «السادات» أن تتطابق مع التراجيديا (المأساة) اليونانية وفقا لمواصفات «أرسطو» تماما. فهو البطل التراجيدى النبيل الذى يرتكب خطأ تراجيديا، فيكون سببا فى نهايته المأساوية.

■ من يدافعون عن «السادات» وإنجازاته- وهم كثر وذوو مكانات مرموقة- يكاد دفاعهم عنه يكون همسا أو سرا!!، ترى هل ذلك خشية من الغوغائية الهيستيرية المهيمنة على معظم المنابر الإعلامية؟، إنه استمرار لتراجيديا «السادات»، هذا البطل الحقيقى، المغبون قدره، عن نقص شجاعة تارة، وتارة عن جحود مقيت.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف