الجمهورية
صالح ابراهيم
عم رشدي.. وعربته الكارو
** وسط زحام الحياة.. المشاغل والآمال.. التدافع بالمناكب والمركبات من أجل لقمة العيش.. أو لأغراض أخري.. غالباً ضمن مظلة طموحات الإنسان.. نقطة ضوء.. نجمة منيرة وسط غيوم التكدس والزحام.. تدق بوابة العقل.. داعية للانتباه.. هل تريد أن تتعلم شيئاً.. هل أنت قادر علي التأمل.. واستخراج الدرس المفيد.. إذن وجه البؤرة إلي هذا القطاع.. ولن تندم.. فالدروس المستفادة من تأمل عابري الطريق.. جواهر تتناثر علي سطح البحر.. إذا لمحتها تكسب الكنز دون الحاجة إلي مصباح علاء الدين.
** اكتب لكم عن خطة التنوير لملاحظة حدث يتكرر أمامي لسنوات.. لم يلفت نظري في البداية تعاملت معه مثل عابر سبيل.. لا مكان له وسط ذاكرة مزدحمة بالأحداث ومحاولات التعلم والتذوق.. والبحث عن مدخل مناسب لإثارة الاهتمام لدي من يقرأ ما يكتبه.. بعد التحول من الجري وراء الأخبار والمعلومة.. إلي كتابة الأعمدة والمقالات حيث يشترط الفكرة المتوهجة.. وتوفر المنطق والمعلومات.. لذلك كان صعباً للغاية.. وبعد هذه السنوات أن أمسك بتلالبيب النجمة المضيئة.. وأن أسير كرسي الانتظار عند مكتبة ابن خلدون.. الكائنة 13 شارع تمام.. اترقب وصول سيارة الجريدة لتحملني إلي العمل.
** يحدث التصادم بين العقل والقلب والذاكرة المجهدة.. التي تحتاج إلي تفريغ ما لا لزوم له مما رصدته عدسة العين.. خلال السنوات السبعين الطوال.. يحدث بملاحظة تكرار الحدث اللافت.. وفي نفس الموعد.. إنه موكب بسيط للغاية.. رجل يقود حصاناً بينما يجر به عربة كارو محملة بالبرسيم.. بجواره صغير في العاشرة من العمر.. أرجح بأنه ابنه.. يخترقان المكان إلي المجهول.. يتكرر المنظر يومياً في نفس الميعاد ما يتغير فيه فقط.. كمية البرسيم قد تقل قليلاً أو كثيراً من يوم ليوم.. تلتقي غريزة الانتظار مع حب الاستطلاع والتأمل بداخلي.. ليتقدم الرجل وحصانه إلي مكانة النجمة.. يزداد توهجها.. تجد مكاناً ضمن تلال الاهتمامات.. ويسأل العقل.. وأنت تعلم أن معظم المصريين لا يلتزمون بمواعيد محددة في أجندة حياتهم.. لماذا لا تبدأ حواراً مع الرجل ربما خرجت بدرس مستفاد.
** تتحول الفكرة إلي لمحة.. ثم إلي رغبة ونفس السؤال للصديق هشام صاحب مكتبة ابن خلدون الذي يستضيفني.. منتظراً السيارة كل صباح.. يتحمس لها.. ويبدأ بالتفاوض مع الرجل وينجح في العبور به من المفاجأة إلي الموافقة.. اسمه محمود الشهير برشدي.. يقترب عمره من الستين.. يقطع بعربته وحصانه يومياً ما يتجاوز 50 كيلو متراً.. من الخصوص حيث يسكن.. يغادر منزله المكون من ثلاثة أدوار بعد صلاة الفجر.. يوقظ ابنه الصغير عبدالرحمن ليرافقه في رحلته.. ربما اقتنع بالمهنة التي يمارسها والده منذ أكثر من 40 عاماً.. ويسلمه أمانة "التواصل" رغم أنه يشجعه في نفس الوقت علي الدراسة بالفترة المسائية.
** يحكي عم رشدي الرزق الحلال يأتي بالالتزام واحترام لقمة العيش.. وهذا ما أحرص عليه وكذلك احترم علاقاتي مع الزبائن علي طول الطريق.. وافكر ما ذنب الحيوان.. سواء كان ارنباً أو حصاناً كي أتأخر.. إنها في النهاية مهمة لرعاية حيوان أخرس.. ومع مرور الوقت أصبح يحفظ الطريق.. والحصان يتوقف عند محطات الزبائن والابن يسلمها.. أي حزم البرسيم.. حسب احتياجات كل أسرة.. الطريق هنا مشمول بالأمان وشريك الرحلة.. عبدالرحمن.. حارس للأب يؤكد وجوده ذلك.. بعد أن تعرض رشدي في السابق.. لسرقة العربة والحصان.. واستردها بعد فدية.. أعانه الله علي تدبيرها.
** أرفض الآن.. التخلي عن الكارو.. واستبدالها بنصف النقل.. أولاً تعايشت تماماً مع الرحلة العادية ورفقة الحصان.. نظمت وقتي بالكامل.. العودة إلي المنزل.. في موعد لا يتغير تقريباً.. أتناول الغذاء.. ثم استريح قليلاً.. بعدها أمام التليفزيون والدش مع الأسرة.. تجتمع زوجتي الأولي.. والثانية والأبناء.. حتي العاشرة مساء.. أنام حتي قبل الفجر.. وفي العصر تجدني غالباً في الحقل.. اطمئن علي البرسيم.. بالطبع لا أعرف الاجازة.. إلا في الأعياد وبين زراعة البرسيم والذرة.. واستثمرها في الزيارات العائلية غالباً.. أرفض النصف نقل.. لأن مصاريف البنزين قد تلتهم ما يأتيني من رزق حلال.. انفقه علي ابنائي.. وندبر المعيشة نستغني فوراً عن السلع مرتفعة الأسعار.. بالإضافة إلي مصاريف الصيانة والإصلاح.. وبالتأكيد العلاقة العاطفية التي تربطني بالكارو والحصان.. أتأكد من حواري إيمان رشدي "أو محمود" بحكمة القدر.. وقضاء الله.. حيث فقد ابنه الأكبر مع أول محطة بالجامعة في حادث غرق بالبحر.. ولاقت ابنته الكبري وجه ربها أثناء ولادة ابنها الأول.. لكن الله سبحانه وتعالي عوض عليه.. بأسرة متماسكة.. وزوجتين علي أعلي درجة من الطيبة والوفاء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف