فى إطار ملفات كثيرة تواجهها مصر تشح المعلومات بصورة أو بأخرى، بسبب أمرين، أولهما غلبة فكرة الدعاية على موضوع الإعلام، وثانيهما عدم الإعلان عن الخطط التى تواجه بها الحكومة بعض المعضلات أو الأزمات الكبرى التى تواجه المصريين. الطريقة التى تمت معالجة موضوع أزمة سد النهضة بها تقدم لنا نموذجاً على التعامل الخفيف مع المعلومات فى ملف يحتاج فيه الناس إلى الطمأنة، نظراً لاتصاله بتاريخهم وجغرافيتهم، وارتباطه بحاضرهم ومستقبلهم. هم بحاجة إلى ذلك أيضاً لأنه فى الوقت الذى تصمت فيه الحكومة عن إحاطة المواطن علماً بما يحدث، يتداول الكثير من المصادر الأخرى -وبعضها فى حالة عداء مع النظام- الكثير من المعلومات حول هذا الملف الحيوى، تختلط فيها الحقائق بالأباطيل، والواقع بالتوقع، والصواب بالخطأ.
عندما وقّعت مصر اتفاق المبادئ الثلاثى مع كل من السودان وإثيوبيا عام 2015 خرج الكثير من نوافذ الإعلام المصرى لتعلن أن المشكلة قد تم حلها من جذورها، وأن الاتفاق يضمن ألا تضر إثيوبيا مصر أثناء ملء السد وتخصم من حصتها التاريخية فى مياه النيل. وواقع الحال أن اتفاق المبادئ ينص على التعاون بما يحقق مصالح دول المنبع والمصب، لكنه لا ينص أو يؤكد على حق مصر فى الحصول على حصة تاريخية من مياه النيل تبلغ 55.5 مليار متر مكعب. لم تلتفت نوافذ الإعلام وقتها إلى أن اتفاق المبادئ خطوة من المتوقع أن تتلوها مجموعة من الخطوات، وقدمته وكأنه يقدم حلاً حاسماً للمسألة الشائكة، وأخذت تهلل وتطنطن كعادتها. والمبالغة فى التهليل كثيراً ما تُخفى رغبة فى التستر على حقائق غير مطمئنة، وذلك دأب الإعلام المصرى منذ نشأة الصحافة على يد محمد على وحتى الآن، فاستغراقه فى التهليل لا يبشر عادة بما يطمئن. لا بأس من أن يقوم الإعلام بأدوار دفاعية أو وظائف تعبوية لخدمة أهداف الدولة والمجتمع، لكن مع الوعى بأن تلك واحدة من وظائفه، وأنه ملتزم بوظائف أخرى عديدة أهمها تقديم المعلومات والمعالجة الموضوعية للأحداث، بصورة تضع كل حدث فى حجمه الطبيعى دون تحديب أو تقعير.
الحكومة من ناحيتها كانت شحيحة فى تزويد المصريين بالمعلومات التى تضىء وعيهم بأزمة سد النهضة، حتى فاجأت الناس بإعلان توقف المفاوضات. كل التصريحات السابقة، سواء لوزير الموارد المائية أو وزير الخارجية، لم تكن تقول شيئاً، كانت تشير فقط إلى الجدل الطويل الذى خاضته مصر مع كل من إثيوبيا والسودان حتى تم الاتفاق على المكتب الاستشارى لإجراء الدراسات الفنية الخاصة بالسد. وفى الأوقات التى كان يحس فيها المتابعون بتعثر المفاوضات، كان المسئولون عن الملف يؤكدون عدم وجود أى مسار آخر للتعامل مع الأزمة غير مسار التفاوض. أفهم بالطبع أن هناك معلومات لا يجوز أو يصح الإفصاح عنها، لكن ذلك لا يعنى بحال عدم تحديد العناوين الأساسية لسيناريوهات التعامل البديل مع هذه الأزمة الوجودية دون عرض التفاصيل. كيف يمكن للمواطن أن يفهم أبعاد ما يحدث وهو يواجه بإعلام وتصريحات تدور مرة فى فلك الدعاية، وأخرى فى فلك الحديث عن المؤامرة على مصر. نعم هناك تآمر علينا، لكن الحكومة لم تُفدنا علماً بما أعدته حتى تدفع عنا أذى التآمر والمتآمرين، بل أقامت سداً كبيراً فى مواجهة المعلومات.