الجمهورية
محمد عبد الحميد
من نافذة القطار
الحياة لا تسير علي "رتم" واحد.. هي لا تعرف الخلود. لا في ذاتها. ولا في تفاصيلها.. الحزن لا يدوم.. الفرح لا يدوم.. لا ضيق يعرف الأبدية.. ولا سعة إلي ما لا نهاية.. كلنا إلي زوال.. وكل ما نمر به.. ومَن يمر بنا إلي زوال..خلاصة الخلاصة: لا تتشبث بالدنيا. ولا تدعها تحتلك من الداخل.
ليست نظرة سوداوية. بقدر ما هي نظرة سوية.. فأصل المشكلة. ألا نعرف ما المشكلة. وأين المشكلة.. نعم. اتسعت مساحة الحزن في حياتنا حتي أفسدت علينا حياتنا والسبب أننا غاب عنا الهدف الأول من الحياة.. لم تشغلنا الإجابة علي السؤال الأصيل: لِمَ أتيناها؟ ولا شغلنا أننا لا محالة مغادرون.. لم نشغل بالنا بأن الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الحياة هي الموت.. لم نعبأ بحياتنا بعد الموت.. انشغلنا بالدنيا. فشغلتنا عن أنفسنا.
لا بد أن نعي أننا لسنا في "دار استقرار".. إنما نعيش. وإلي حين. في "دار اختبار".. الاختبار بالمنح.. والاختبار بالمنع.. الاختبار بالنعم لدي الغير. وافتقادها في النفس.. واختبار بنعم تنعم بها النفس. ويُحرم منها الغير.. امتحان بالآخر.. وامتحان في الذات.. امتحان الصبر.. والرضا.. والشكر.. امتحان العبادات لله. تعبر عنه الآية الكريمة: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" .. وامتحان المعاملات مع الناس. يعبر عنه الحديث الشريف: أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا".. كم مِن الاختبارات؟ وكم مَن أدركوا أننا في اختبارت؟ وكم منا سينجحون في الاختبارت؟
لا هي فلسفة.. ولا هو زهد في الدنيا.. فقط علي كل منا أن يعود إلي رشده.. ويعلم علم اليقين أن الدنيا في اللغة من الدناءة.. وأن الدنيا معبر إلي الآخرة.. وأن الهدف من الحياة. ما بعد الحياة.. "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبى وَلَهْوى وَزِينَةى وَتَفَاخُرى بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرى فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ - كَمَثَلِ غَيْثي أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ــ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابى شَدِيدى وَمَغْفِرَةى مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانى ــ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ".. صدق الله العظيم.
أذكر أن حواراً دار بيني. وبين صديق في هذه القضية التي أراها المحورية.. رأي هو أن النظر إلي الدنيا من تلك الزاوية يفسد الإحساس بها. وينزع منا الإحساس ببهجتها. ولا محالة يقود إلي نظرة بائسة.. لم اتفق معه.. المنطق ذاته لا يتفق مع كون التفكير وفق نظرة كلية للحياة. والنظر بعين الاعتبار للهدف منها. ولما ينتظرنا بعدها. من شأنه أن ينفخ فينا روح البؤس. ويشيع بداخلنا اليأس.. لا. إنما هي محاولة لإدراك ما لم نعد ندركه.. ربما ندرك ما يمكن إدراكه.
قلت لصديقي أننا في هذه الحياة أشبه ما نكون في قطار. الكل فيه منشغل مع مَن بجانبه في تفاصيل لا تنتهي.. وحوار لا يمل الأخذ. والرد.. فيما يتوقف القطار بين حين وآخر.. في المحطة الواحدة ينزل كثيرون. ويصعد آخرون.. نودع بنظرة من النافذة مَن يغادرون.. وعيوننا علي الباب. ترحب بمَن يدخلون.. ثم يعود الكلام. فيما يفيد. وفيما لا يفيد.. يأتي علي الجميع وقت ينسون فيه أنهم في قطار.. ينسي كل منا لِمَ ركب القطار.. وما هي وجهته.. وأنه بانتظار محطته.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف