د . احمد الطيب
يوم مولده .. ذكري ميلاد أمة
منذ ألف وتسع وأربَعَمِائةِ عامي هجري. ظهر إلي الوجود نور أضاء العالم كله شرقًا وغربًا. ولايزال يضيئه. وسيظل كذلك إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها» ذلكم هو نور سَيِّد النَّاس محمدي صلي الله عليه وسلم. الذي أشرق علي البشرية جمعاء. وكان مولده رحمة للعالمين. وبركةً علي الإنسانية كلها. جاءها هاديًا ومنقذًا. بعد أن أشرفت علي الزوال. وبعد أن بدا واضحًا أن الجنس البشري كله أوشك علي العـودة إلي حالة من الهمجية. أصبحت معها كل قبيلة وكل طائفة عدوًا لجارتها. لا يعرفون لهم نظامًا ولا يتبينون لهم قانونًا. في هذا الوسط الموبوء بكل أمراض الحضارة وأدوائها وعللها. بُعث محمد صلي الله عليه وسلم. بدعوة إلهية. ورسالة حضارية طالت عنان السماء. وعمَّت أرجاء الكون. في زمن قياسي. ظل معقد دهشةي واستغرابي من كِبار عُلَمَاء التَّاريخ حتَّي يومنا هذا. فقد استطاع هذا النبي الكريم أن ينقل العالم كله. في فترة وجيزة. من حالة الموات والسكون والركود. إلي حالة الحياة والحركة والنهوض. ومن حالة الفوضي والاضطراب إلي حالة النظام والاستقرار. ولعل الهدف الأسمي من رسالة محمد صلي الله عليه وسلم. حُصر في غاية واحدة هي "الرحمةُ" بالكونِ كله. وانتشالُه من كل ما أوشك أن يقع فيه مِن فوضي وظلام وحيرة وضلال. فقد قال المولي عز وجل مخاطبًا نَبيِّه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" {الأنبياء: 107}. والذين يفقهون أساليب القصر في بلاغة اللغة العربية. يعلمون من نَصِّ هذه الآية الكريمة. أن رسالته صلي الله عليه وسلم من ألفها إلي يائها تدور علي محور الرحمة بالإنسان والارتفاق بالكون وصحبته والحنو عليه. وهذا ما أكده هو نفسه صلي الله عليه وسلم وهو ينادي الناس وبأسلوبِ القصر البلاغي أيضًا ويقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةى مُهْدَاةى". وكان نعته الذي يُنعَت به من بين سائر الأنبياء "أنه نَبيّ الرحمة". إذ بسطت رحمته رداءها علي الكون كله. ولم يُحرَم منها كائن حيّ أو غير حيّ. وهذا ما تدل عليه كلمة "العالَمين" في الآية الكريمة. فإنها لم ترد بصيغة المفرد. بل وردت بصيغة الجمع لتنطبق علي العوالم كلها: عالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد. ثم جاءت سيرته تأكيدًا لسعة هذه الرحمة النبوية وشمولها: فأمَّا الإنسان فقد أعلن صلي الله عليه وسلم كرامته علي الله. وتكريمه وتفضيله علي باقي المخلوقات. وصدع في الناس في مجتمعات تقوم أنظمتها الاجتماعية علي السخرة والرق والاستعباد بقوله تعالي: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيري مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" {الإسراء: 70}. كما أعلن حرمة الاعتداء علي الإنسان وعلي دمه وماله وعرضه. بل حرَّم مجرد تخويفه وترويعه. حتي لو كان ذلك علي طريق المزاح. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "منْ أشارَ إلي أخيه بحديدةي. فإنَّ الملائكــةَ تلعنُهُ حتَّي يَدَعــهُ وإن كان أخــاه لأبيهِ وأُمِّهِ". وقال أيضًا: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمي أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا". وكان عطوفًا رحيمًا بأصحابه وبأعدائه علي السَّواء. وكان هذا دأْبَه مع كل ضعيف. قريب له أو بعيد. تقول سيرته الشريفة إنَّه ما نهر خادمًا. ولا ضرب أحدًا. وأن أنسًا ? خدم رسول الله صلي الله عليه وسلم عشر سنين فما قال له: أُفّي قط. وَلا لشيء فعله لِمَ فعله؟ وَلا لشيء تركه لِمَ تركه؟. وكان يَهَش للأطفال ويضاحكهم. ويتألم لآلامهم ويُسرعُ في صلاته حين يسمع بكاءهم من خلفه. وكان يكره الغدر والخيانة ويمقت الغادرين والخائنين والفاجرين في خصوماتهم وقد نهي عن الغدر حَتَّي مع العدو. فكان إذا أمَّر أميرًا علي الجيش يوصيه بتقوي الله في خاصته ومَن معه مِن المسلمين ويوصيه بمراعاة مبادئ الأخلاق في الحرب مع العدو. وهي مبادئ خلقية لم تُعرف لغير نبي الإسلام والمسلمين. كان يأمر قادة الجيش ويقول لهم: "لَا تَـغُـلُّــوا. وَلَا تَـغْــــدِرُوا. وَلَا تُمَـثِّـلُوا. وَلَا تَقْتُـلُوا وَلِيدًا..."» نعم ها هنا رحمة بالضعفاء والعُبَّاد والأطفال والشيوخ والنبات والحيوان. حتي لوكان كل ذلك في جيش العدو الذي يحمل السلاح في وجه المسلمين. وقد بلغ رفقه بالحيوان أنه رأي مرَّة جملًا مرهَقًا. تذرف عيناه الدموع. فاستدعي صاحبه وقال له: "أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها؟ فإنه شكي إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه" . أي تتعبه وتشق عليه. وأخبر "أنَّ الله غفرَ لِامْرَأَةي بَغِيّى مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ رأت كَلْبًا يُطِيفُ بِرَكِيَّةي (أي ببئر). كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ. فَنَزَعَتْ مُوقَهَا (أي خفها) فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ. فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ. فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" . وقال أيضًا "دَخَلَت امْرَأَةى النَّارَ فِي هِرَّةي رَبَطَتْهَا. فَلَا هي أطْعمْتهَا. وَلَا هي أرسلتها تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حتي ماتت هزلًا - أي هُزالًا". وإننا إذ نحتفل بصاحب الذكري الخالدة التي خص مصر وشعبها بقوله الشريف: "اسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا". وقال في أقباطها: "اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ". لا يسعنا إلا أن ندعو الله سبحانه في هذا اليوم المبارك لأمتنا الإسلامية والعربية. أن تتوحد وتجابه خطر الإرهاب بكل صوره وأشكاله. والذي لا شك في أنه إنما نجم وتغذي علي فرقتنا نحن العرب والمسلمين. وعلي تمزيق وَحدتنا وتنازعنا واختلافنا علي أنفسنا. ونؤكد أنه لا عاصم من شر هذا البلاء. ولا نجاة من خطره إلا بوحدة هذه الأمة وجمع شملها. إننا إذ نحتفل بيَومَ مَولِدِه - صلي الله عليه وسلم - لا نحتفل فقط بميلادِ رَسُولي عظيمي. أنقذَ الله به الإنسانيَّةَ وصحَّحَ به التَّاريخ. وإنَّمَا نحتفل بذكري ميلاد أُمَّة صَنعَها هذا النَّبِيُّ الكريم. وربَّاها علي كرائم الأخلاقِ وأصُولِ الفضَائلِ. والدَّعوة إلي الخَيرِ والحَقِّ.