السنوسى محمد السنوسى
فهمي هويدي.. صوت عاقل خسرناه!
منذ أعلنت جريدة "الشروق"، مطلع يوليو الماضي، عن توقف الأستاذ فهمي هويدي عن الكتابة بسبب إجازة صيفية؛ وقراء هويدي- وهم كثيرون- محرمون من متابعته، رغم انقضاء شهور الصيف الساخنة!
وكان الأستاذ هويدي أرسل مقاله الأسبوعي للشروق، في اليوم الأخير من أكتوبر، بعد عودته من الإجازة الصيفية، لكن الجريدة امتنعت عن النشر، دون أن تبدي أي أسباب، بحسب تصريح هويدي لأحد المواقع الإلكترونية.
وللمرء أن يعجب من منع كاتب ومفكر كبير بحجم الأستاذ فهمي هويدي، الذي أمضى 59 عامًا في العمل الصحفي، وله عشرات الكتب المهمة التي تمثل جزءًا كبيرًا من ذاكرتنا الثقافية، وكان مقاله الأسبوعي في "أهرام الثلاثاء"- ومن قبلُ مقاله الشهري في مجلة "العربي" الكويتية- يحظى باهتمام واسع؛ لأنه نجح بموضوعاته وأسلوبه في أن يحرك مياهًا راكدة، ويسد فراغًا في الوعي المطلوب.
في مقدمة كتابه (المقالات المحظورة)، والذي نشره في زمن مبارك، قبل الثورة، أشار الأستاذ هويدي إلى أن منهجه في الكتابة يقوم على تجنب "الكتابات النارية، المهيجة أو التحريضية".
وأكد أنه حريص دائمًا على "احترام الخطوط الحمراء، ومراعاة السقوف"، مضيفًا: "ظللت وما زلت أسعى لعدم تجاوز تلك الخطوط وعدم التصادم مع السقوف. وكان ظني في كل مرة أنني أتحرك في حدود الهوامش المتاحة، برغم أنني لا أنكر أني لم أتردد في كتابات عدة في الوصول إلى (حدود التماس)، مستثمرًا الحدود القصوى لتلك الهوامش".
ومن خلال تجربته مع المقالات المحظورة، رصد هويدي ملاحظة مهمة قائلاً: "وجدتُ أن المقال يمنع أحيانًا لا لأنه متجاوز للخطوط الحمراء، ولا حتى واصل إلى خطوط التماس؛ ولكن لأن قراءته تمت بدرجة عالية من الحساسية لا أعرف لها مصدرًا".
وأستطيع أن أشهد من واقع متابعتي لكتابات الأستاذ هويدي، والتي بدأت- أي متابعتي- منذ عشرين عامًا تقريبًا، بأنه شديد العناية بكلماته؛ ينتقيها بمهارة، يكتفي بالتلميح لا التصريح، يراهن على وعي القارئ الذي يدرك ما بين السطور، وما بعد السطور.. لكن حتى هذا المستوى من الكتابة يبدو أنه صار عبئًا لا يُحتمل..!
كتابات هويدي شديدة التأنق، ليس فقط على مستوى الأفكار والموضوعات، وملامسة الراهن الثقافي والهمِّ الإسلامي، وتناول الإشكاليات بوعي وبصيرة؛ وإنما أيضًا على مستوى المفردات والتعبيرات؛ حتى كنت في مرحلة الجامعة أقرأ مقاله وبيدي قلم أضع به خطًا تحت الفقرات التي تعجبني- وهي كثيرة- وأتأمل كيف يبدأ مقاله وكيف ينهيه، وكيف يتدرج من فكرة لأخرى حتى يلم بموضوعه في جوانبه الأساسية.. كنت أقرأ مقال هويدي لا لأعرف رأيه فحسب، بل لأعرف كيف يعبر عن رأيه!
مسيرة الأستاذ فهمي هويدي الصحفية والفكرية توزعت على أنظمة متعاقبة من الحكم، وعهود مختلفة من السياسة، كان خلالها حريصًا على إيصال صوته بحكمة بالغة، واستطاع بهذه الحكمة أن يحافظ على ما تقتضيه أمانة الكلمة، وما يتيحه هامش الحرية المتوافر.. ومع هذا لم يسلم من المضايقات؛ بداءً من عهد السادات، حين كتب مقالاً يرد فيه على الشيخ الباقوري؛ الذي رأى في خطبة له أن إنجاز السادات في حرب أكتوبر يؤهله لأن يبقى رئيسًا مدى الحياة، وأن الانتخابات غير مرحب بها في الإسلام.. فرد عليه هويدي، مما أغضب السادات، وتسبب في منعه من الكتابة بالأهرام.
وفي أبريل الماضي، حين اتصل مشاهد بأحد البرامج الفضائية يستنكر السماح للأستاذ فهمي هويدي بمواصلة الكتابة حتى الآن- أي قبل المنع- أيدت المذيعة استنكار المشاهد، مبرِّرةً ذلك بأن الأستاذ هويدي "ميوله إخوانية.. دي حاجة معروفة"(!!!)
ورغم التقلبات التي شهدتها مصر، بل والعالم العربي، في السنوات الأخيرة، لم يفقد الأستاذ هويدي بوصلته المنضبطة على إعلاء قيمة الحرية، ووحدة النسيج الوطني، وإعلاء المصلحة العامة، وضرورة احترام الإنسان، ونبذ الاحتراب السياسي والفكري، بجانب دعم القضايا العربية ومتابعتها بدقة، وفي مقدمتها الشأن الفلسطيني..
إنني في ختام هذه المقالة القصيرة، التي أردت بها التعبير عن تقديري البالغ للكاتب والمفكر الكبير الأستاذ فهمي هويدي، والذي أتم عامه الثمانين من أيام، أعتقد أن كثيرين يشاركونني الرأي بأن الحيلولة بين الأستاذ هويدي وقرائه، هي خسارة كبيرة لا تعوض، نفقد بها صوتًا عاقلاً واعيًا نحن في مسيس الحاجة إليه، وإلى تجربته الصحفية والفكرية الثرية؛ تمامًا كما أننا في حاجة إلى كل صاحب قلم يحب وطنه وأمته، ويحرص على إيصال رسالته بالتي هي أحسن وأقوم، ويضع المصلحة العامة فوق الاعتبارات الخاصة..