نبيل عبد الفتاح
نقد الفكر الديني مقدمة في تحرير المسألة ورفع الالتباس
نقد الفكر الديني لا يعني نقد الدين أو المقدس، إنما يتصدى صاحب الخطاب النقدي إلى الإنتاج الوضعي والإنساني الذي تشكل حول الدين تفسيرًا وتأويلًا، وعلى صعيدي الإفتاء، والدعوة إلى هذا الدين أو ذاك، ومن ثم يخرج من هذا الإطار كل المحاولات النازعة إلى رفض الدين سواء من منطلقات الحادية أو رافضة للدين أي دين من الأديان السماوية أو الوضعية كالأديان الآسيوية أو الإفريقية.. إلخ! هنا التحفظ مهم ابتداء ورئيس حول ضرورة التمييز بين المقدس تنزه وتعالى، وبين الفكر البشري حوله، الأول محاط بالقداسة والتنزه، في حين أن الثاني لا يعدو أن يكون إنتاجًا تفسيريًا وتأويليًا للمقدس، لأن بعضهم من رجال الدين، أو من الدعاة أو عامة المؤمنين يميلون إلى الخلط بين كلتا الدائرتين، لعديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلي:-
1- دفاع رجال الدين الرسميين أو غيرهم عن سلطتهم الرمزية ومكانتهم ومصالحهم وهيبتهم إزاء بعض ناقدي الموروث الوضعي/ البشري حول الدين بوصفه محضُ تفسيرات، وأفكار وآراء تعبر عن تاريخية الإنتاج التفسيري أو التأويلي أو الإفتائي أو الدعوي أو حول السير الدينية للرسل والأنبياء والآباء المؤسسين حولهم، أو تاريخ الديانة وتمدداتها الجغرافية والثقافية والسياسية، أو تاريخية تأسيس المذاهب ومؤسسيها وإنتاجهم الوضعي حول الديانة أيًا كانت سماوية أو وضعية. بناء السلطة الرمزية والمعيارية يعتمد على إضفاء سياجات حول مواريثها الوضعية، بل واعتبار المساس النقدي والتاريخي بها، هو مساس بالدين ذاته، وهو ما يسهل على بعضهم السعي إلى تأثيم المحاولات الفكرية والمنهجية لمساءلة هذا الموروث الوضعي التفسيري والتأويلي، ومنطلقاته وأسئلته الزمكانية التي طرحت على المذهب ومؤسسيه وتابعيه وتابعي التابعين.. إلخ!
2- سعي بعض رجال الدين ومؤسساتهم الرسمية أو الطوعية أو بعض دعاة الطرق -بتعبير الأستاذ العميد طه حسين- إلى فرض سيطرتهم الرمزية والعقائدية على التابعين للديانة أو المذهب ونزوعهم إلى فرض سياجات من الهيبة وشبه القداسة على المواريث الفقهية أو اللاهوتية أو الشروح حول العقائد، واعتماد منظومة معيارية صارمة حول المباح والمنهي عنه، أو ثنائيات ضدية حول الحلال والحرام ترمي إلى فرض هندسة عقدية وإيمانية صارمة -تأويلية بامتياز لدى بعضهم- بهدف ضبط حرية المؤمن في التفكير حول الدين أو الشروح المقدمة حوله، أو رموزه ورجالاته من كبار الفقهاء والمفسرين وكتاب السير والتاريخ، وتنزيه غالبهم عن الأخطاء أو التناقضات في تفسيراتهم أو تأويلاتهم أو شروحهم أو إفتائهم. هي محاولة مستمرة من بعضهم لتوظيف هذا الفائض الرمزي من شبه القداسة والتنزيه لصالحهم، وأن ما يعيدون إنتاجه من موروث المذهب أو المذاهب، هو عنوان "الحقيقة الدينية"، لا شك أن هذا الاتجاه لدى بعض رجال الدين أو مؤسساته أو جماعاته، يفرض هيمنة روحية وإرشادية على غالب عوام التابعين للديانة أو المذهب داخلها، بالنظر إلى شيوع الأمية الدينية، أو أمية القراءة والكتابة، ومن ثم مصدرهم في المعرفة الدينية هم رجال الدين الرسميون، أو غيرهم، أو من بعض الجماعات الإسلامية السياسية، التي ترمي إلى تعبئة هؤلاء البسطاء لصالحها وبنائها لقواعد اجتماعية عليها، لا سيما في الأرياف وضواحي المدن المريفة.
3- في غالب الأحيان، ثمة تحالفات بين المؤسسة الدينية الرسمية، وبعض الجماعات الدينية، وبين السلطة الحاكمة أيًا كانت طبيعتها الديكتاتورية الغاشمة، أو الشمولية أو التسلطية، حيث تمنح السلطة لها الدعم والصلاحيات الواسعة في المجال الديني في مقابل الدعم الديني لشرعيتها وسياساتها في مواجهة معارضيها وخصومها، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان والحالات إلى وصم خصومها بالخروج عن الدين، وتكفيرهم إزاء الجمهور، بل والتحريض عليهم، وهناك عديد الأمثلة مصريًا وعربيًا. في بعض الأحيان تؤثر بعض هذه السلطات الدينية التابعة على بعض العاملين في أجهزة الدولة وتحرضهم على بعض المعارضين أو من يحاولون تقديم بعض الآراء الاجتهادية حتى ولو أخطأوا، أو إعادة النظر في بعض الموروث الديني الوضعي، أو بعض الشخصيات التاريخية التي لعبت دورًا بارزًا في التاريخ الفقهي أو الديني.. إلخ، واعتبار أن ذلك يمثل ازدراءً بالدين وزراية ببعض الرموز الدينية التاريخية.. إلخ.
هذا النمط من سياجات الحماية الرمزية، والسياسية والدينية، لرجال الدين ومؤسساتهم وجماعاتهم تشكل قيدًا ثقيلاً على حريات الرأي والتعبير والبحث الأكاديمي، بل وحرية التدين والاعتقاد وفق القواعد الدستورية، ومواثيق حقوق الإنسان العالمية، والأخطر أنها تؤدي إلى إنتاج نمط من السلطة الدينية التي تتغول على حرية الإيمان والاعتقاد للإنسان المؤمن بوصفها الحرية التي تؤدي إلى عمق الاختيار الإنساني للمعتقدات والتفاسير، ومن ثم يجعل الإيمان الفردي عميقًا في الروح، ومن ثم تنعكس فضائله وقيمه في الممارسة والسلوك الاجتماعي. هذا الاتجاه إلى حماية الموروث الديني الوضعي القديم وحراس بواباته من بعض رجال الدين وجماعاتهم ومؤسساتهم، تزايد في ظل الخلط بين السياسة والدين، وبين رجال الدين والسياسيين، وتوظيف السلطات السياسية وأجهزتها ببعض الدول لتفسيرات محافظة ومتشددة للدين لدعم شرعيتها ومواجهة خصومها ومعارضيها حول السياسة والحكم، على نحو أدى إلى تمدد القمع المادي والفكري في بعض الدول العربية على وجه الخصوص.
من هنا نستطيع القول إن المقصود من التمييز بين نقد الدين، ونقد الفكر الديني، هو رفع هذا الخلط الذي يتعمد بعضهم فرضه بين كلتا الدائرتين على التمايز بينهما، ومن ثم تحرير المسألة موضع البحث والتحليل والنأي بها عن التخليطات السياسية والفكرية العمدية المحمولة على الفرض السياسي الموتور، خاصة في ظل تزايد بعض الآراء الأثارية حول بعض الشخصيات الدينية، أو بعض الكتابات التأسيسية لتاريخ الفكر الديني الوضعي، التي غالبًا ما يثار الجدل والسجال الصاخب حولها، دون تدقيق أو نظر معمق في هذه الآراء الإثارية المحمولة على التعميمات المفرطة، وعدم البحث المنهجي والتاريخي المنضبط، وذلك جريًا وراء الحاجة الموضوعية لتجديد الفكر والخطابات الدينية في مواجهة بعض الأيديولوجيات السياسية المحمولة على بعض التأويلات الوضعية للإسلام العظيم، ومحاولة توظيف هذه التفسيرات على نحو متشدد ومتزمت، يبرر القتل والتدمير والخراب وإشاعة كراهية الآخر على نحو ما يجري في إقليمنا المضطرب، وخارجه.
وللحديث بقية..