مؤمن خليفة
بدون أقنعة - بين محفوظ ومؤنس
قبل نحو 37 عاما.. وقع اختياري علي قصة قصيرة للأديب الكبير الدكتور حسين مؤنس عنوانها » فاطمة عبد النور» عن فتاة صعيدية حملت السلاح دفاعا عن أسرتها.. في تلك الأيام كانت هناك موضة جديدة علي الشاشات العربية هي إنتاج مسلسلات درامية عن الصعيد الذي كان جاذبا للمشاهدين.. وكان قطاع الإنتاج آنذاك تحت رئاسة السيناريست الشهير ممدوح الليثي الذي يعد في رأيي مؤسس هذا القطاع والأب الروحي له.. وكان علينا إحضار موافقة كتابية من الدكتور حسين مؤنس لكي يبدأ القطاع الإعداد لإنتاج المسلسل المأخوذ عن قصته.. قدمنا ملخصا عن المسلسل وتمت الموافقة عليه بصفة مبدئية في انتظار التعاقد وتوقفنا أمام المؤلف صاحب القصة.. الموضوع شائق للغاية لكن لوائح الإنتاج كانت تمنع واقعة انتحار البطلة »فاطمة عبد النور» حيث إن الدول الخليجية وعلي رأسها السعودية لا تقبل واقعة انتحار لمخالفة ذلك للشريعة الإسلامية. رضوخا لتعليمات الإنتاج الذي سيقوم بالإنفاق علي العمل ومن ثم تسويقه علي الشاشات العربية اضطررنا لتغيير النهاية إلي موتها بالرصاص علي يد خطيبها وكان هذا هو الحل الأمثل.
المهم.. ذهبت إلي الأديب الراحل في بيته لإقناعه بالنهاية الجديدة لكنه رفض تماما أن يتم التغيير وعبثا حاولت معه لكنه أبي وتعثر العمل.. بعد عدة شهور حاولنا من جديد فالعمل يحظي بالموافقة في قطاع الإنتاج وكان حلما وقتها أن يتم إقرار أي عمل درامي فقد كان يكفي أي مؤلف أو سيناريست عمل واحد مع الليثي لينطلق في عالم النجومية.
اقترح البعض بديلا آخر وهو التنصل تماما من أي إشارة إلي العمل الأصلي.. أي الاكتفاء بكتابة اسمي فقط كمؤلف للمسلسل وفضلا عن تحفظي شخصيا قوبل المقترح أيضا بالرفض لأسباب عديدة أهمها علي الإطلاق أنني غير معروف وهذا يؤثر في عملية التسويق إضافة إلي أن الخليج كان يطلب وقتها أعمالا لكبار الكتاب الذين هم في منزلة نجيب محفوظ وحسين مؤنس ويحيي حقي وطه حسين وعباس العقاد وإحسان عبد القدوس والدكتور يوسف إدريس وغيرهم.
وللمرة الثالثة.. أبدي الدكتور مؤنس إعجابه بالملخص وأولي الحلقات لكنه جدد رفضه المساس بالنهاية. مات الموضوع إكلينكيا ولم يتم الإنتاج.. وماتت غريزة التأليف بداخلي بسبب فاطمة عبد النور. رحم الله رجال هذا الزمان فلم يكن يعنيهم المال بقدر التمسك بالمبدأ والمجد الأدبي وحرصهم علي ترك سيرة طيبة بعد مماتهم.
أذكر تلك الحكاية بعد أن تناقشنا وعدد من الزملاء عن سر شهرة نجيب محفوظ الذي كان متساهلا للغاية في تحويل أعماله في السينما أو الدراما التليفزيونية وكان يعتبر أن من حق مؤلف العمل الجديد أن يضيف أو يحذف ما يتراءي له وكان الأديب الكبير يري أنه مسئول فقط عن عمله الأصلي سواء في قصته أو روايته.. ولذلك يعد نجيب محفوظ هو الأديب الأكثر والأغزر إنتاجا في السينما والمسرح والدراما التليفزيونية والإذاعية وهو سبب رئيسي في شهرته وكانت الأفلام المأخوذة عن أعماله سببا كبيرا في إعادة طبع رواياته عدة طبعات رغم أن هذه الأفلام تختلف إلي حد ما مع ما كتبه محفوظ.. هل هذا لأنه عمل كسيناريست في بعض الأفلام فعلم أن إبداعا آخر سوف يضيف مصنفا جديدا ؟.. الله أعلم.