الأخبار
رجائى عطية
مدارات - باب العودة « ٢ ـ 4 »
القانون الوضعي ما بين التقادم، والتصالح، وسقوط العقوبة .. ورد الاعتبار.. حول هذه المعاني التي أصلتها الأديان بعامة ، والإسلام بخاصة وواكبتها أو لاحقتها القوانين الوضعية ، نمت ثقافة يمكن أن نطلق عليها ـ ولو تجاوزًا ـ
باب العودة ، وإلي هذه الثقافة تُعزي آلاف الصفحات التي كتبها المفكرون وعلماء الإسلام عن التوبة والمغفرة والتكفير عن الذنوب والمعاصي ، وبث هذه الثقافة فيما سطروه وألفوه ، حتي لنجد عالمًا كالإمام أبي حامد الغزالي يخصص مئات الصفحات من » إحياء علوم الدين »‬ ـ للحديث عن التوبة والغفران ، وعن الكفارات ، والتعمق في أحكامها ومقاصدها ومراميها ، ونري الشيخ محمد متولي الشعراوي يستشهد في كتابه عن التوبة، بآراء الحكماء من أهل العلم الذين رأوا أن التوبة »‬ رجوع إلي الله »، وهذا الرجوع لا سبيل له لو أوصدنا باب العودة، وأوصدنا معه أبواب الأمل والرجاء في التزام الجادة والصواب .
علي حين أن التوبة في فحواها توبة عن الذنوب، وتوطين القلب علي الطاعة وعلي العزم علي عدم العودة إلي الذنب والخطأ ، وحتي لنري القوانين الوضعية تتطور مستلهمة معاني وحكمة إبقاء »‬ باب العودة » مفتوحًا أو مواربًا علي الأقل ، فنجد المشرع المصري يفتح باب »‬تقادم» الدعوي بمضي المدة التي تختلف في مواد الجنايات عنها في الجنح، عنها في المخالفات .
سقوط العقوبة
ويلحق المشرع المصري بالتقادم باب »‬ سقوط العقوبة » بمضي المدة التي تختلف بدورها ما بين عقوبات الجنايات مع حكم خاص لعقوبة الإعدام، وما بين عقوبات الجنح والمخالفات .
وبغض النظر عن ارتدادةٍ حدث عام 1997 لظروف خاصة أضافت مانعًا ـ غير منطقي ـ لسقوط العقوبة، وسوف أعود إليه، إلاَّ أن الذي لا مراء فيه أن »‬ سقوط العقوبة » باب ـ بشروطه ـ من أبواب إتاحة »‬ العودة » السوية للمجتمع .
انتقل المشرع المصري بعد ذلك خطوة هامة بالغة السعة، بسن باب »‬رد الاعتبار» لرفع صفحة الخطيئة نهائيًا، ونحا المشرع هذا المنحي علي استحياء في قانون تحقيق الجنايات الصادر سنة 1904 ، ثم توسع قانون الإجراءات الجنائية الصادر سنة 1950 ، فسن بابًا كاملاً لرد الاعتبار ، يتغيا أن يمسح عن المخطئ خطيئته ، وأن يرد إليه اعتباره ، وأن يتيح له العودة للانخراط الصحي في المجتمع وهجرة مسالك الجريمة ، والإقبال علي سبل الحياة السوية النظيفة .
ويختلف رد الاعتبار عن تخفيف العقوبة أو وقف تنفيذها، فهو سياسة مقصودة لإعادة المخطئ للانخراط في المجتمع، وإعطائه الفرصة لحياة سوية يخلع عن نفسه الثوب الذي تلوث من جرمه، فرد الاعتبار باب للعودة السوية إلي الحياة، ولفظ مسالك الجريمة، وحماية من الإمعان فيها من خلال إعطاء هذه الفرصة لرد الاعتبار وممارسة الحياة علي سنن الأخلاق والسواء .
واهتمام المشرع المصري بفتح الباب للعودة للحياة السوية، اهتمام قديم جاوز قرنًا من الزمان، خطه حكماء الأمة وكبار رجال القانون والتشريع فيها .. وأول ما ظهر ذلك كان في قانون تحقيق الجنايات الصادر سنة 1904، حيث نص بالمادتين 276، 277 علي »‬ سقوط العقوبة » في الجنايات بمضي عشرين سنة هلالية من تاريخ صدور الحكم، وتسقط عقوبة الإعدام بمضي ثلاثين سنة هلالية، أمّا في مواد الجنح فتسقط العقوبة بمضي خمس سنين من تاريخ صيرورة الحكم الابتدائي غير قابل للمعارضة أو الاستئناف، وفي المخالفات تسقط العقوبة بمضي سنة هلالية بذات هذه القواعد .
باب رد الاعتبار
ومع احتفاظ قانون الإجراءات الجنائية الجديد الصادر سنة 1950، بمدد سقوط العقوبة بمضي المدة، بذات المدد ما لم تنقطع بالقبض علي المحكوم عليه أو باتخاذ أي إجراء من إجراءات التنفيذ قِبله، أدخل القانون باب »‬ رد الاعتبار » وهو باب كبيره للعودة إلي الحياة السوية، غير باب سقوط العقوبة بمضي المدة، فأجاز رد اعتبار كل محكوم عليه في جناية أو جنحة بحكم محكمة الجنايات، بشرط تنفيذه العقوبة، ومضي ست سنوات علي تنفيذ عقوبات الجنايات أو العفو عنها، وثلاث سنوات علي عقوبات الجنح، بشرط الوفاء بالغرامات والتعويضات والمصاريف، وذلك بعد تحقيق تجريه النيابة العامة يتضمن شهادة بالسوابق ـ بعد الحكم، وتقريرًا عن حسن السلوك أثناء تنفيذ العقوبة في السجن .
وبلغ من حرص المشرع علي عدم إيصاد هذا الباب، وعلي بقائه مفتوحًا للعودة إلي المجتمع، جعل رد الاعتبار تلقائيّا وواجبا بحكم القانون بمرور (12) سنة علي عقوبات الجنايات وعقوبات الجنح في السرقة أو النصب أو خيانة الأمانة أو التزوير، وتكون المدة التلقائية لرد الاعتبار الوجوبي ست سنوات في غير ذلك من عقوبات الجنح .
وحرص القانون علي النص علي أنه يترتب علي رد الاعتبار ـ محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمستقبل، وزوال كل ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية .
باب التصالح
ونري قانون العقوبات يتطور من سنة لأخري فيدرج مع قانون الإجراءات الجنائية ما يفتح الباب للتصالح في كثير من الجرائم التي جعل يوسع دائرتها ونوعيتها تباعًا ، مستهدفًا ـ عن وعيٍ ـ رد الجانح عن استمرار الإمعان في الجرم أو الخطأ ، ورده إلي المجتمع علي أمل وسواء باقتناع ، فيكسب نفسه ويكسب المجتمع منه .
ولا يتسع المجال لإحصاء هذه الأبواب التي تعانق فيها قانونًا العقوبات والإجراءات الجنائية ، مع التطورات الاجتماعية ، لاتخاذ هذه السياسة سبيلاً لتطهير النفوس وكفكفة الثارات ، والتشجيع عن المسالك الصحية وعمارة الحياة !
وقد تدرج قانونا العقوبات والإجراءات الجنائية، في إفساح المجال للتصالح عن بعض الجرائم تحقيقًا لذات الحكمة بفتح باب العودة إلي الطريق القويم، فإلي جوار المواد التي تتدارك البسيط من بعض جرائم الأموال العامة، توسع قانون الإجراءات تدريجيًّا في التصالح في الجنح والمخالفات، وجعل الدعوي الجنائية تنقضي عنها بالتصالح الذي بين شروطه وأوضاعه، ثم مد ذلك إلي دائرة أوسع من الجنح، شملت جنح احتجاز الحيوان المفقود المعثور عليه أو احتباسه، واختلاس المحجوزات، والمرهونات، واستعمال السيارات بغير نية التملك، وعدم دفع أثمان المأكولات والمشروبات أو شغل غرفة فأكثر بالفنادق والمحلات ونحوها، والنصب، وخيانة الأمانة عن الورقة الممضاة أو المختومة علي بياض، وخيانة الأمانة بالاختلاس أو الاستعمال أوالتبديد للأموال المسلمة علي سبيل الوديعة أو الإجارة أو عارية الاستعمال أو الرهن أو الوكالة، وبعض صور الحرائق البسيطة بإهمال، وبعض جرائم الإتلاف، ودخول عقار بقصد منع حيازة حائزه بالقوة أو لارتكاب جريمة، ودخول البيوت والأماكن المسكونة أو محلات حفظ الأموال، ودخول الأراضي الزراعية أو الفضاء أو المباني وغيرها المعدة للسكني، وبعض المخالفات المتعلقة بالأمن العام أو الراحة العمومية .
وكان من التوسعات التي شملتها التعديلات التشريعية، مد جواز التصالح لجنح القتل الخطأ غير المشدد، والإصابة والجرح الخطأ غير المشدد، وإعطاء جواهر غير قاتلة نشأ عنها مرض أو عجز وقتي عن العمل، هذا فضلاً عن تقرير الأوامر الجنائية في بعض المخالفات بدلاً من المحاكمات .
والواقع أن هذه السياسة، علي تنوع صورها وأشكالها، قد أتت في إطار ثقافة فتح باب العودة للسواء، بإزالة عوائق كانت تحول دون ذلك بالتطبيق الجامد للنصوص، وما يتبعها من محاكمات وعقوبات، ومنها عن جرائم لا تنطوي علي جنوح في الطبع والسلوك، وبعضها عن أخطاء فرطت بالصدفة وبغير قصد، فكانت هذه السياسة أجدي لرد المخطئ إلي المجتمع وفتح الباب أمامه للعودة إليه متطهرًا من الذنب ومن الملاحقة القضائية .
والذين سنّوا هذه القواعد الحكيمة، صفوة من المفكرين والقانونيين الذين سخَّروا كل ما لديهم من علم وفكر وخبرة وحكمة لإمداد السلطة التشريعية بما استنت به هذه المبادئ، التي تكفل فتح الباب للعودة للحياة السوية، وتقي المجتمع ذاته من أن يتحول المخطئ ـ بسد الباب في وجهه ـ إلي »‬ حالة جنوح » دائمة، تمعن في الانحراف وسلوك باب الجريمة مادام باب الأمل في حياة سوية قد أوصد عليها، ولم يعد من ثم أمامها إلاّ استئناف الجنوح الذي كان قد فرط منها !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف