الأهرام
طه عبد العليم
الاقتصاد الاشتراكى السوفيتى: مؤشرات الإخفاق
كان ركود وتأخر اقتصاد الأوامر أهم أسباب سقوط النظام الاشتراكى السوفيتى، وجسد أهم أسباب هزيمة الاشتراكية المتجمدة فى المنافسة الاقتصادية الاجتماعية مع الرأسمالية المتجددة، بمعيارى كفاءة تخصيص الموارد وزيادة رفاهية السكان. وعلى نقيض النظرية الماركسية، فقد كشف الركود والتأخر أن علاقات الإنتاج الاشتراكية صارت أكثر تقييدا لتطور قوى الانتاج مقارنة بعلاقات الانتاج الرأسمالية. وكان استنزاف الموارد الاقتصادية والتكنولوجية فى سباق التسلح فى ظل الركود والتأخر عاملا حاسما فى استسلام القوة العظمى السوفيتية فى الحرب الباردة مع القوة العظمى الأمريكية. ولم يوفر ركود وتأخر اقتصاد الأوامر الحوافز الطوعية اللازمة لكبح نزعات الاستقلال عن المنظومة الاشتراكية الشمولية، وعمق أسباب تفكك الاتحاد السوفيتى وخاصة مع إخفاقات ومغامرات وخيانات زعماء حزبه الشيوعى!!

وأسجل، أولا: أن الزعيم السوفيتى بريجنيف، الذى كان رمز الركود، قد عين فى تقريره الى المؤتمر 24 للحزب فى عام 1971 أهم عوامله وهى تبديد الموارد والتأخر التكنولوجى وانخفاض الكفاءة وانخفاض الانتاجية وضعف الحوافز وقصور التخطيط. لكنه أعلن وبحزم فى تقريره الى المؤتمر 25 فى عام 1976 أن اللجنة المركزية تعارض تعديل أساليب ادارة الاقتصاد، داعيا إلى القياس 10 مرات- وليس 7 مرات كما يقول المثل الروسى- قبل الشروع فى القص!! وقد اعترف الزعيم السوفيتى أندروبوف إبان ولايته القصيرة فى مطلع الثمانينيات بحتمية التغيير، ودعا للارتقاء بالاشتراكية على أساس إحياء الماركسية النقية فى الحكم ومحاربة الفساد والتسيب فى الاقتصاد. وفى منتصف الثمانينيات، وبعد ولاية قصيرة أخرى لتشيرنينكو، اتجه الزعيم السوفيتى جورباتشوف إلى إعادة بناء الاشتراكية على أسس واقعية لا أيديولوجية، موضحا أنه لا يجوز الاقتصار على تحسينات جزئية وإنما إجراء إصلاح جذرى، اندفع الى تقويض دعائم اقتصاد الأوامر وبناء ما سماه باقتصاد السوق الاشتراكية. وقد طرح مأزق الاشتراكية ضرورة مراجعة النظرية الماركسية، وطبقا لخطاب الزعيمين أندروبوف وجورباتشوف:

وثانيا، أن الاتحاد السوفيتى قد أولى اهتماما هائلا بالبحث العلمى والتكنولوجى، وقدر عدد علمائه وباحثيه وفنييه بنحو 25 فى المائة من الإجمالى العالمى، وبلغ حجم إنفاقه فى هذا المجال حوالى 5 % من إجمالى دخله القومى فى النصف الأول من الثمانينيات، وهو ما مكنه من تحقيق إنجازاته المشهودة. بيد أن القيود الملازمة لاقتصاد الأوامر والنظام الشمولى حالت دون نشر ثمار هذا التقدم فى الاقتصاد والمجتمع، مع الحصار التكنولوجى الغربى، كبحت اللحاق بالموجة الأحدث للثورة الصناعية التكنولوجية. ويؤكد تحليل تطور وهيكل التجارة الخارجية السوفيتية إلى حد يعيد مصداقية وصف الاتحاد السوفيتى بأنه دولة نامية ذات أنياب نووية. وهكذا، على سبيل المثال، فإن صادراته من الآلات والمعدات، التى تمثل الفرع الأرقى تكنولوجيا فى الصناعة التحويلية وأهم إنجازات التقدم العلمى التكنولوجى قد هبطت حصتها فى الصادرات السوفيتية من 21.5 فى المائة فى عام 1970 إلى 12.5 فى المائة فقط فى عام 1985. وطبقا لتقديرات وزارة التجارة الخارجية السوفيتية فى منتصف الثمانينيات، فإن 15 فى المائة فقط من صادرات الآلات والمعدات السوفيتية كان بمقدورها المنافسة فى أسواق عالمية مفتوحة. وفى نفس الفترة زادت حصة الآلات والمعدات فى واردات الاتحاد السوفيتى من البلدان النامية (الصناعية الجديدة) من 0.1 فى المائة إلى 13 فى المائة، بينما تضاعف نصيب النفط ومنتجاته والغاز الطبيعى من 15.6 فى المائة إلى 46.9 فى المائة من إجمالى الصادرات السوفييتية للعالم.

وثالثا، وقد جسدت إنتاجية العمل، التى يقصد بها فى الأدب الاقتصادى السوفيتى الانتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، المؤشر الرئيسى لتدنى كفاءة أداء الاقتصاد السوفيتى. ومع ثورة الجلاسنوست (المصارحة والمكاشفة والشفافية) أبرزت دراسة أكاديمية سوفيتية أن إنتاجية العمل فى الاتحاد السوفيتى قد زادت نحو 19 مرة مقابل 5.5 مرات فقط فى الولايات المتحدة واليابان وأوروبا الغربية، وذلك خلال 57 عاما (1921 - 1940 و 1951 - 1987) باستبعاد فترات حروب ما بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية والحرب العالمية الثانية وما بعدها مباشرة. وقد تحقق هذا الإنجاز الكبير على أساس تعبئة استثنائية للموارد وأساليب القهر الشمولية والاستخدام المفرط لموارد العمل والخامات والمستلزمات والاستثمارات (التنمية الافقية) ولم يرتكز إلى كفاءة توظيف الموارد (التنمية الرأسية). بيد أن الأهم أن متوسط إجمالى إنتاجية العمل فى البلدان الرأسمالية المتقدمة استمر أعلى مرتين ونصف مقارنة بنظيره السوفيتى، ولم يتعد مستوى انتاجية العمل فى الصناعة السوفيتية حوالى 60 فى المائة، وكان مستوى إنتاجية العمل فى الزراعة السوفيتية أقل بنحو خمس مرات من المستوى المناظر فى البلدان الغربية. وقد تفاقمت أزمة الركود كما مأزق التأخر منذ بداية السبعينيات، وقدر بنحو 16 فى المائة فى الخطة الخمسية التاسعة (1971 - 1975)، ونحو 15 فى المائة فى الخطة الخمسية العاشرة (1976 - 1980)، ونحو 12 فى المائة فى السنوات الأربع الأولى من الخطة الخمسية الحادية عشرة (1981 - 1985)، مقابل نحو 5 فى المائة فقط فى الخطة الخمسية الثامنة (1966 - 1970).

لكن خسائر البناء الاشتراكى المتداعى حلت محلها مصائب الهدم الرأسمالى المتوحش، حين أعلن يلتسين نهاية الاتحاد السوفيتى، وهدم القطاع العام عبر برامج خصخصة واسعة وفاسدة. وبين عامى 1993 و1996، حسب تقديرات المركز الاستراتيجى فى موسكو، بلغت خسائر روسيا من الخصخصة نحو ثلاثة تريليونات دولار نتيجة بيع أكثر من 12 ألف مشروع إنتاجى روسى- كانت تقوم عليها دعائم الدولة السوفيتية ـ بنحو 20% من قيمتها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف