الأهرام
د . محمد حسين ابو الحسن
اغتيال بوتين
كشف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، للمخرج الأمريكى أوليفر ستون، قبل مدة قصيرة، أنه كان هدفا لخمس محاولات اغتيال، بينما أعلن ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية، السبت الماضى، أن الأجهزة الأمنية الروسية تلقت 60 بلاغا هاتفيا، عن وجود عبوات ناسفة مزروعة بالطرقات، تستهدف موكب بوتين، خلال زيارته «سان بطرسبورج» لحضور فعاليات المنتدى الدولى للمدينة. ليست تلك المرة الأولى التى يفصح فيها عن محاولات اغتيال الرئيس الروسى، بل إن صحيفة «ديلى ستار» البريطانية شطح بها الخيال، يوما، للزعم بأنه «قُتل بالفعل» على يد المخابرات البريطانية، عقب ضمه جزيرة القرم من أوكرانيا إلى روسيا، وأن الرجل الموجود فى الكرملين حاليا، هو عميل أو نسخة بديلة..!!.

هوس بأخبار الرجل فى الغرب والشرق، وبما يدور بعقله، يعكس اعترافا بمهارته وكاريزمته وقدراته القيادية وحجم الإنجازات التى حققها لبلاده، منذ تولى الحكم لأول مرة عام 2000، أو الضيق ذرعا من جانب أمريكا وأوروبا بسياساته ودهائه وألاعيبه الماكرة، تجاه الأزمات المشتعلة فى الشرق الأوسط وأوكرانيا وأمن الطاقة العالمى.

فلاديمير بوتين دارس القانون، انتقل من دهاليز المخابرات الروسية إلى باحات السياسة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، شاهد بلاده تتهاوى، تحت وطأة الاضطرابات السياسية والفساد المالى فى عهد الرئيس يلتسين، عصر نهب الدولة وتجويع الشعب الروسى، على أيدى تحالف رعاه الغرب، تمثل فى زمرة من رجال أعمال فاسدين وحفنة من المحيطين بيلتسين، بينما حرب الشيشان الانفصالية تنذر بانفراط وحدة البلاد المترامية.

فى قصته «الهوة وبندول الساعة»، وصف إدجار آلن بو، غرفة تعذيب بإحدى محاكم التفتيش فى الأندلس: «تطبق الجدران ببطء على السجين، وفى منتصف الغرفة هوة سحيقة غير معلومة العمق والخواص». هكذا بدت روسيا-يلتسين، سجينا وقع فى حفرة عميقة، يتصرف كأن المتغيرات تطبق عليه من كل ناحية، فيهرب الى الأمام، فالأيام اليائسة تتطلب إجراءات يائسة.. وسط هذه الأجواء الكابوسية، ظهر بوتين من فوق قباب الكرملين، سطع نجمه، بدا «مخلّصا» فى نظر جموع الطبقات الفقيرة والمتوسطة، صار رئيسا بتأييد يلتسين نفسه. خاض حربا رهيبة فى الشيشان، انتصر، ثم استدار على خصومه من الأثرياء الجدد، بعد سقوط الشيوعية، شل أيديهم رويدا رويدا عن السيطرة على مكامن القوة الاقتصادية ووسائل الإعلام، صار بطلا شعبيا.

تداعيات الانهيار السوفيتى، أورثت بوتين مرارة وحنكة، أدرك أنه لا مفر من بناء روسيا واستعادة مجدها ودورها فى مجالها الحيوى والعالم، إنه حلم الدولة القوية الذى ظل ومازال يطارده، يرى أن موسكو تحوز من أسباب القوة ما يكفى ويفيض، أكبر دول العالم مساحة، وفى احتياطات الغاز، والسابعة فى النفط، ثروات معدنية وأراض زراعية مترامية وصناعات متطورة، فى السلاح خصوصا، وأسلحة نووية تجعل منها القوة الثانية عالميا، حق النقض فى مجلس الأمن.. إلخ. صاغ بوتين أجندة سياسية خارجية متدرجة، عبر الاستخدام الكفء والتوظيف الأمثل لموارد روسيا، والدبلوماسية الناعمة والمرنة أو القوة الصلبة، لتحقيق النهضة الاقتصادية وانتشال الدب الروسى من «غرفة التعذيب»، صهر «الطاقة» سلاحا استراتيجيا، وفى ظل الأداء الجيد، وارتفاع أسعار النفط والنموّ، ازدهر الاقتصاد، وحقق فوائض تجارية هائلة، مما انعكس أثره على مستوى معيشة 140 مليون روسى، واحتلت بلادهم المركز الثالث عالميا فى الاحتياطات النقدية، ودشنت صندوقا استثماريا للثروة السيادية. الغرب كان يتابع عن كثب خطوات بوتين، تحول من الاستخفاف به إلى الشعور بالخطر من أحلامه التوسعية، وضع العراقيل أمام «القيصر» محاولا كسر ساقيه، لكنه حطم أطواق الوصاية، لم تكن الحرب فى جورجيا مجرد «جس نبض» للغرب، بقدر ما كانت أول الردود على توسع حلف «الناتو» شرقا، مثلما حدث فى أوكرانيا، ردا على التمدد الأوروبي، وقبل أن يستفيق القوم من هول الصدمة، وضع بوتين قدما ثقيلة فى سوريا، ليصير لاعبا أساسيا فى تقرير مصير الشرق الأوسط الجديد، أحد ميادين صراع القوة بين الكبار. يعمل بوتين مع الصينيين وغيرهم - تجمع «بريكس» نموذجا- لبناء عالم متعدد الأقطاب، وإسقاط واشنطن عن عرش «القوة العظمى المتفردة»، حتى إن دوائر أمريكية اتهمت بوتين بالتأثير المباشر فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة. إنه عالم الصراعات الدامية، يُهدم ويُبنى من لحوم البشر، مسرحية ميثولوجية تتصارع فيها آلهة العالم القديم لتحكم الأرض الجديدة، وفى أتون صراع البقاء ذاك ليس يسيرا تهميش دولة بحجم روسيا، يقودها القيصر «الجديد» بوتين، أما حياته فهو يدرك أنها بيد الخالق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف