نيفين مسعد
انتهت ظاهرة داعش لكن وظائفها باقية!
مع سيطرة الجيش السوري علي مدينة البوكمال توشك صفحة داعش أن تُطوي بعدما شَغَلَ العالم هذا التنظيم لقرابة ثلاث سنوات . انتهت أو كادت هذه الظاهرة التي نجهل عنها أكثر بكثير مما نعلم ، نزلت الأعلام السوداء من فوق الصواري وأُغلِقَت أبواب المحاكم الشرعية في دولة الخلافة ولف الغموض مصير الخليفة وصرنا علي أعتاب مرحلة جديدة . نحن بسبيلنا للتخلص من كابوس داعش هذه حقيقة ،لكن التنظيم منذ نشأته وهو يؤدي مجموعة من الوظائف لمجموعة كبيرة من الأطراف المحلية والخارجية ، وهذه الوظائف لن تفقد أهميتها بعد هزيمته - أو علي الأقل ينطبق هذا علي البعض منها -ومادام الأمر كذلك فسيذهب داعش ويأتي غيره كما ذهبت القاعدة وجاء داعش. نعلم من النظرية الوظيفية في إطار العلوم السياسية أن استمرار أي تنظيم أو مؤسسة مرهون بعوامل -أهمها أن له مجموعة من الوظائف التي يؤديها، وأن هذه الوظائف تتطور بتطور السياق المحيط بالتنظيم أو المؤسسة. نعلم أيضا من النظرية الوظيفية أن الوظائف المؤداة ليست بناءة بالضرورة، فهذا يتوقف علي نوعية القيم التي يتبناها التنظيم، وليس أي تنظيم إرهابي استثناء من ذلك .
في يونيو 2016 كشفت صحيفة «لوموند» الفرنسية النقاب عن أن شركة «الافارج» عملاق الأسمنت الشهير كانت له تعاملاته مع تنظيم داعش في سوريا ، وكان المصنع التابع للشركة المذكورة قد بدأ نشاطه في سوريا عام 2010 بعدما تم استثمار نحو 680مليون دولار في تجهيزه فما أن بدأ الإنتاج حتي اندلعت الثورة السورية . وفي عام 2014 فاجأتنا ظاهرة داعش، وأصبح العمال في مرمي عمليات التنظيم، وأصبح إنتاج المصنع مهددا بالتوقف، وهنا تم التفاهم بين الشركة والتنظيم علي دفع مبلغ شهري لإرهابيي داعش قدّرته بعض المصادر بما يوازي 30٫000 دولار مقابل عدم المساس بحياة موظفي الشركة وعمالها، والسماح بتداول منتجاتها في سوريا . هنا لا تنبع المفارقة من مجرد خضوع الشركة الضخمة ابتزاز كيان إرهابي ناشئ لكن الأهم أيضا أن المنتَج المراد تسويقه هو من مواد البناء فيما الصراع المسلح يسّوي كل شئ بالأرض، ومازال التحقيق مستمرا في هذه الفضيحة المدوية. الوظيفة الاقتصادية المذكورة التي قدمها تنظيم داعش للطرف الفرنسي سبق أن قدم ما يماثلها لتركيا عندما راح يبيعها النفط المُستخَرَج من مناطق هيمن عليها، سواء في سوريا أو في العراق ، وعندما كشفت وزارة الدفاع الروسية عن رصد ناقلات محملة بنفط داعش في طريقها لتركيا توترت العلاقات التركية -الروسية، لكن فيما بعد دفعت متغيرات الوضع السوري الطرفين للتقارب، وتدشين مسار الأستانة، وهكذا هي السياسة.
أما الوظيفة الأمنية فقد أداها التنظيم لأطراف عديدة، أداها لإسرائيل في مواجهة إيران بالأساس، وقد عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي يعالون عن ذلك بكل وضوح حين قال إذا كان عليّ أن أختار بين تنظيم الدولة الإسلامية وبين إيران سأختار التنظيم لأنه أقل قوة من إيران. وحافظ يعالون علي صراحته نفسها عندما أخبرنا بأن التنظيم ليس في وارد مهاجمة إسرائيل فقال في مرة واحدة تم إطلاق النار من أحد مواقع داعش -يقصد علي أهداف إسرائيلية - وتم الاعتذار علي الفور! في ظل هكذا مجاهرة بالتنسيق ولو غير المكتوب بين داعش وإسرائيل تصبح مباهاة داعش بالهجوم، الذي وقع علي نفر من الإسرائيليين قرب البلدة القديمة قبل شهور -نوعا من غسيل السمعة. داعش أدِّي الوظيفة نفسها للولايات المتحدة في مواجهة إيران أيضا، وعندما تدخلت روسيا بقوة في الصراع السوري أصبح التنظيم أداة لمحاصرة النفوذ الروسي المتنامي ، وفي هذا المقام توجد مؤشرات عديدة تعلي عدم جدية الولايات المتحدة في محاربة داعش من أول التراخي في محاربة التنظيم عندما كان محدود العُدّة والعتاد في عام 2014 ، مرورا بعمليات الإنزال في صفوف التنظيم بريف دير الزور لتهريب بعض الدواعش. والأخطر التعامي عن بيع المعارضة المسلحة السورية المعتدلة السلاح الأمريكي لداعش، وانتهاء بالتشويش علي الأجهزة الإلكترونية لروسيا وحلفائها في معركة البوكمال . عموما فإن السلوك الأمريكي مع داعش يمثل امتدادا لسلوكها مع الجماعات الإسلامية في أفغانستان تخلصا من الوجود السوفيتي ، وهو سلوك يستخدمه أعداء الولايات المتحدة أيضا. فمع أن الجماعات السنية المتطرفة هي العدو الأصيل لإيران إلا أن ثمة علاقات بين إيران وبين تنظيم القاعدة بعد أن وقعت تفجيرات 11 سبتمبر وتبدلت علاقة الولايات المتحدة بالتنظيم بخروجه عن قواعد الاشتباك.
من حقنا أن نحتفل بهزيمة داعش كتنظيم لكن من الواجب علينا أن ننظر للمشهد الإقليمي والدولي نظرة أوسع ، وعندما نبحث في كيفية تجفيف منابع الإرهاب نولي اهتماما للمصالح التي يخدمها هذا الإرهاب ونخطط تحركاتنا من منطلق الوعي بها ، فالمعركة مع الإرهاب ليست فكرية فقط، وليست اجتماعية -اقتصادية فحسب ولا هي تُحسَم بالمواجهة العسكرية وحدها لكن ظاهرة الإرهاب لها أبعادها السياسية العابرة للحدود، وهي وثيقة الصِّلة بإعادة ترسيم الخرائط في منطقة الشرق الأوسط وفي قلبها خريطة الوطن العربي.