المساء
محى السمرى
الفرق بين السد العالي وسد النهضة
في الستينيات من القرن الماضي ذهبت في رحلة إلي مناطق منابع النيل بأفريقيا.. وهناك قابلت عددا من الخبراء المصريين الذين يفهمون في نهر النيل ويعرفون كل كبيرة وصغيرة عن مجري هذا النهر العظيم.
قابلت بعضهم في أوغندا.. وقابلت بعضاً منهم في السودان.. والكل يؤدي العمل ميدانيا وفي مواقع معينة عند النيل الأزرق والأبيض وعند بحيرة فيكتوريا هم في معظمهم عباقرة في شئون الري والمياه.. يفكرون ويدرسون مشروعات لزيادة ايراد النيل ومنع جرف المياه التي تضيع في مستنقعات السودان.
تذكرتهم وأنا أتابع ما أدلي به وزير خارجية السودان من تصريحات في محطة تليفزيون "روسيا اليوم".. بصراحة كانت تصريحاته غريبة فعلاً وسر غرابتها انها غير دقيقة لأن كل الأمور المتعلقة بمياه النيل بعد بناء السد العالي محددة ومحكمة بالاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان في 8 نوفمبر 1959 وقد أحسن سامح شكري وزير الخارجية في سرعة الرد وتوضيح الحقائق التي أغفلها الوزير السوداني حول استخدامات المياه وحصول مصر علي كميات إضافية من حصة السودان.
الواقع ان السودان لم يكن يستطيع في سنوات سابقة علي استيعاب كمية المياه المحددة في الاتفاقية وقدرها 18.5 مليار متر مكعب..فالمياه لديه بها وفرة تزيد علي حاجته.. فكان يفيض منها كميات تذهب إلي مجري النهر بموافقة الخرطوم.. ولم يكن هذا الوضع مريحا لمصر لأن هناك قدرة استيعابية للسد العالي وأي زيادة في هذه القدرة قد تسبب خطرا وبالتالي وإن خبراء الري يضطرون إلي تصريف هذه الزيادة اما في مجري النهر أو في مفيض توشكي خلف السد.
والحقيقة الأخري ان وزير خارجية السودان أراد أن يحسب حساب مدين ودائن في الموارد الطبيعية التي لا دخل لأحد فيها وهي مياه النيل هبة الله تعالي لن يستفيد بها.. أراد أن يكون محاسباً ويحسب المياه بنظام الدائن والمدين.. ولهذا أتساءل: ما هو الوضع المالي الخاص بما قدمته مصر للسودان وعلي رأسها مدينة الخرطوم التي أقامها خورشيد باشا عند نقطة التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق وبناها علي أحدث الطرق العصرية وقدمها للسودان بدون حساب دائن ومدين؟
بصراحة عيب كبير أن يتحدث الوزير ويتكلم هذا الكلام.. من جهة أخري أرادت مصر أن تطمئن علي سلامة مشروع سد النهضة وذلك من خلال عرض المشروع علي المكاتب الاستشارية العالمية لدراسة الآثار السلبية للسد خاصة ان هذه الأخطار قد تؤدي إلي غرق العاصمة السودانية نتيجة حدوث أي كوارث محتملة. المهم ان هذا ما فعلته مصر عند انشاء السد العالي في أسوان حيث عهدت بهذا المشروع إلي كبريات بيوت الاستشارات الهندسية لإجراء دراسات مستفيضة واستطلاع الآراء حيث أكد الجميع ان أفضل مكان لإقامة السد العالي هو جنوبي خزان أسوان الذي أقيم عام 1902 وقد استغرقت هذه الدراسات نحو عامين.. حيث اجتمعت هيئة الخبراء العالميين في شهر نوفمبر 1954 واعتمدت التقرير النهائي.. أي ان عرض المشروع الاثيوبي علي المكاتب الهندسية العالمية هو أمر عادي وكان يجب علي السودان واثيوبيا احترام آراء الخبراء.
وبالنسبة لمسألة سعة المياه التي تحصل عليها مصر من حصة السودان فقد أشار سامح شكري وزير خارجيتنا إلي أن الاتفاق بين مصر والسودان كان يسمح برصد وتسجيل ومتابعة المنصرف من المياه خلف بحيرة السد لضمان التزام البلدين بالحصة المائية لكل منهما فهناك 150 كيلو متراً من مساحة بحيرة السد العالي تقع داخل الحدود السودانية.. وتستطيع السودان الحصول علي المياه من داخل حدود البحيرة التي تقع في أراضيها.
الحقيقة لقد جانب التوفيق وزير خارجية السودان لأنه أظهر انحيازا كاملا للجانب الاثيوبي وكان في حديثه نبرة تنم عن أفكار غريبة غير مستساغة.. ولا أدري لماذا؟!
عموما نهر النيل ليس أول نهر ينبع من دولة ويصب في دولة أخري.. وقد قرأت رأياً للدكتور أحمد شوقي خبير أول المياه بالبنك الدولي يقول ان هناك عدة تجارب دولية في المشاركة بين دول المنبع ويطلق عليها "الدولة الأعلي" ودول المصب "الأسفل" فهناك علي سبيل المثال مشروع مرتفعات ليسوتو وتقع في دولة ليسوتو الافريقية ويمد جنوب افريقيا بالمياه.. وهناك سد لتوليد الطاقة المائية في لادس وتمتلكه لادس وتايلاند وغيرها وعند تعذر الملكية المشتركة أو الإدارة المشتركة للمنشآت علي النهر العابر يمكن أن تسعي دولة المصب الأسفل إلي القضاء الدولي للحصول علي تعويضات أو ضمانات مالية من دولة المنبع الأعلي وفيما قاله الدكتور احمد شوقي أيضاً انه بعد 11 سنة من المفاوضات وكانت في عام 1944 وقعت أمريكا وكندا اتفاقية عوضت فيها أمريكا ماليا كندا عن إنشاء سدود تخزين مصممة للتحكم في الفيضانات عوضا عن الفرص البديلة الضائعة من عدم تعظيم الطاقة المائية كذلك اضطرت هولندا لأن تعوض فرنسا ماليا عن بعض تكاليف الأعمال التي جرت في نهر الراين وكانت لوكسمبورج والمانيا وسويسرا قد اشتركوا في التعويض لفرنسا ولكن هولندا ماطلت واضطرت فرنسا للجوء إلي التحكيم الدولي الذي حكم لها بالتعويض.
معني هذا الكلام انه إذا لم تصل اثيوبيا إلي اتفاق مع مصر.. فإنه وجب عليها طبقاً للقوانين الدولية أن تدفع لمصر تعويضات عن أي أضرار محتملة أو قد يتسبب فيها سد النهضة.
وعموما فإن مصر عندما انشأت السد العالي وقعت مع السودان اتفاقا في 8 نوفمبر سنة 1959 كما هو معروف بشأن الانتفاع الكامل بمياه نهر النيل وجاء في الملحق رقم واحد للاتفاقية ان مصر تدفع تعويضات قدرها 15 مليون جنيه مصري بالاسترليني أو بعملة ثالثة يتفق عليها الطرفان محتسبة علي أساس سعر ثابت قدره دولارين و871 من الدولار أي ان سعر الدولار في ذلك الوقت كان حوالي 35 قرشا وتم التفاهم علي قيام مصر بدفع هذا المبلغ مقسطا بواقع ثلاثة ملايين جنيه في أول ابريل سنة 1960 والاثنا عشر مليونا الباقية يتم دفعها بواقع أربعة ملايين جنيه في أول يناير سنة 1961 و1962 و1963 وقد تضمن هذا الاتفاق بنودا أخري تؤكد عمق العلاقات بين البلدين منها مثلاً أن يساهم الطرفان بالنصف في مشروعات أعالي النيل وتقسم الفائدة بينهما بنفس النسبة.. كذلك إذا طالبت إحدي الدول بنصيب في مياه النيل تلتزم الجمهوريتان بأن يتخذا رأيا موحدا مع أي طرف ثالث.
بصراحة.. نحن والسودان جزءان لا ينفصلان كما قال المؤرخون.. ولابد أن ننتبه إلي أي أيدي خفية أو علنية تلعب بمقدراتنا.. ونحن والسودانيون أحوج ما يمكن لكي نكون دولتين متكاملتين.. لا منفصلتين.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف