المصريون
جمال سلطان
جريمة مسجد الروضة تكشف أزمتنا الوطنية بوضوح
ما حدث أمس في مسجد الروضة ببئر العبد شمال سيناء كان فجيعة حقيقية ، وصدمة لا نكاد نفيق منها للآن ، فلم يحدث أن حصد رصاص الغدر الإرهابي كل هذا العدد من المدنيين أو الضحايا ، ولم يحدث أن شهد بيت من بيوت الله في مصر كل هذه الوحشية المفرطة والمصحوبة بغل غير مفهوم ، وإصرار القتلة على أن لا ينجو أحد من المذبحة ، هذ شيء لا يصدق ، جنون حقيقي ، وقد هزت الحادثة ضمير مصر بكاملها ، بكل طوائفها وتياراتها الدينية والسياسية ، كان هناك حزن يخيم على الجميع ، وتحول فضاء مصر إلى ما يشبه خيمة عزاء مفتوحة للوطن نفسه ، قبل أن تكون للضحايا الأبرياء في بئر العبد .
الحادثة الإجرامية أعادت التذكير بخطورة ما نحن فيه ، وبأن مصر دخلت بالفعل في حزام الإرهاب الدموي واسع النطاق الذي عرفه العراق وسوريا من قبل ، وأن الوقت لم يعد في صالح الدولة ، بالعكس ، أصبح واضحا أن الوقت في صالح الجماعات الإرهابية التي تتمدد وتنوع عملياتها من شرق مصر إلى غربها ، والمؤكد أنها لن تتردد عن نقلها للعاصمة والمدن الأخرى إذا أمكنها ذلك وربما كانت تخطط لذلك بالفعل ، وحادثة بئر العبد تكشف عن أن هناك حالة من الانغلاق الفكري الكامل لدى تلك الجماعات ، عقل أسود ومشاعر متبلدة ، تنتهك أي حرمة ، وتستبيح أي دم ، وتقدم على أي فعل إجرامي حتى لو كان لمجرد الحضور أو الضجيج الإعلامي لها .
الحادثة أيضا ، كشفت ـ وبصراحة تامة ـ عن أن البلد تعاني أزمة قيادة ، ولا توجد رؤية وطنية واضحة ومتجانسة تقنع الناس بأننا في الطريق الصحيح لسحق الإرهاب ، مصر لا تنقصها القدرات ، مصر فيها أحد أقوى جيوش العالم وأقوى المؤسسات الأمنية ، ولكن ماذا يفعل الجيش والأمن بدون عقل سياسي ، بدون رؤية سياسية ، بدون قيادة سياسية خبيرة وحكيمة ، بدون مشروع وطني جامع ، كما أن هناك الآن حالة من فقدان الثقة واضحة ومتزايدة بين الشعب والقيادة السياسية ، وهو فقدان ثقة متبادل ، فالرئيس السيسي ينظر إلى الشعب ومعارضيه نظرة تقليل من الشأن أو القدر أو الوعي ، ويقابل أي نقد أو حتى تعليق باستخفاف بقائله ، وأنه لا يفهم شيئا ، و"ابقى تعالى وأنا أقولك" ، ويعطي رسالة متكررة بأنه ـ وحده ـ فاهم كل شيء وعارف كل شيء ودارس كل شيء ، بما يعني استغنائه عن الشعب وما يقدمه ، وبالمقابل هناك فقدان ثقة متزايد من قطاع واسع من الشعب المصري بسلامة إجراءات القيادة وكفاءتها في إدارة المواجهة ، وهذه الهوة من فقدان الثقة المتبادلة خطيرة ، وتضعف موقف الدولة ككل في تلك المواجهة المصيرية ، هناك إجماع وطني الآن على ضرورة الاصطفاف في وجه الإرهاب ، هذه لحظة تاريخية ، كما أنها فرصة لكي يترجم هذا الاصطفاف لبرنامج عمل وطني شامل للمواجهة ، ولكن المشكلة الآن أن هذا الاصطفاف لا يوجد من يترجمه لسياسات وإجراءات تعزز الجبهة الداخلية وتبلور هذا الاصطفاف في منظومة عمل وطني متكامل ، الناس مصطفة الآن في مواجهة الإرهاب ، خاصة بعد مستوى الإجرام الذي ظهر في حادثة بئر العبد ، ولكن المشكلة أن هذا الاصطفاف لا يجد القيادة التي يصطف خلفها وحولها بكل ثقة وجرأة ، فالإجراءات التي تتم والقوانين والممارسات كلها تصنع الكراهية والخوف وتهميش الناس واستعادة أجواء القهر وسحق كرامة الإنسان وتصدير الوجه الأمني للسلطة ضد أي معارضة أو نشاط سلمي ، هي ممارسات رسمية للتفريق وتمزيق الصف الوطني وليس لتعزيز لحمته وتعزيز اصطفافه ، القائد الكفء ، القائد الذكي ، هو الذي يجد القواسم المشتركة والحدود الدنيا للاصطفاف حتى مع معارضيه ، في اللحظات التاريخية ، والمواقف التاريخية ، هذا ما لا نجده في مصر الآن مع الأسف .
إظهار الرئيس لغضبه وتهديده باستخدام القوة الغاشمة لسحق الإرهاب ، كلام جميل ، وإن كانت التعبيرات غير موفقة أحيانا ، ولكنه في النهاية يبقى كلاما ، وقد سمعه الناس من قبل بصيغ مختلفة ، وملامح الغضب والتشويح باليد التي استخدمها السيسي أمس أيضا شاهدها الناس مرارا وتكرارا ، عشرين مرة رأينا هذا المشهد ، ثم نفيق بعدها على كابوس إرهابي جديد ، وبعده وعود جديدة بسحقه ، الغضب والعصبية ليست بديلا عن "السياسات" التي تقنع الناس ، والنجاحات على الأرض ، والصورة واضحة وضوح الشمس ، ليس لمن داخل مصر فقط ، بل للمحللين والمراقبين في الغرب والشرق ، أن مواجهة الإرهاب تستدعي نشر أجواء مختلفة في المناخ السياسي ، وتعزيز الحريات وليس خنقها ، وتوسعة منافذ التعبير الحر التي تنفس عن غضب الناس وتشعرهم بالشراكة الحقيقية في وطنهم ، وليست الصيغ التمثيلية والمسرحية التي تجري في شرم الشيخ ، وإعطاء مساحة كافية للنشاط السياسي السلمي ، الحزبي والشعبي ، الذي يستوعب طاقات الشباب ويقطع الطريق على أي استقطاب لهم من قبل جماعات الإرهاب والظلام الفكري والعدمية السياسية .
مصر بحاجة إلى برنامج وطني جديد ، يطوي صفحة التوتر والقلق والكراهية والانقسام الوطني التي خيمت على البلاد طوال السنوات الأربع أو الخمس الماضية ، ويؤسس لمرحلة جديدة من تصالح أبناء مصر مع أنفسهم ومع محيطهم العربي أيضا ، مصر أحوج ما تكون اليوم إلى "تواضع" القيادة ، وحكمة القيادة ، وإلى التجرد لوجه الله ثم الوطن ، وبغير ذلك فسوف نغرق ـ مع الأسف ـ في هذا المستنقع الرهيب الذي يتمدد كل يوم بدون أي أفق أو موعد للحل أو الإنقاذ .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف