الأهرام
عطية عيسوى
المستحيل أصبح واقعا
عندما أُتيحت الفرصة للمواطن العادي ليعبِّر عن رأيه بلا خوف علي حياته من زبانية النظام الحاكم خرج مئات الآلاف إلي شوارع زيمبابوي مطالبين باستقالة روبرت موجابي فورا، وذلك بعد 37 سنة من القمع وتكميم الأفواه فشلت خلالها كل محاولات المعارضة في إزاحته عن السلطة..وبقدرة قادر انقلب عليه أعضاء تسعة من فروع حزبه الحاكم العشرة بعد أن كانوا يتمنون مجرد رضاه ووصفه بول ماننجاوا العضو البارز بالحزب بأنه شخص «حرون» بإمكانه سماع أصوات الناس، لكنه يرفض الاستماع إليهم.لكنه بعد طول تشبث بالسلطة لم يجد مفرا من أن يرضخ ويقدم استقالته لأن البديل هو عزله الذي كانت إجراءاته قد بدأت بالفعل داخل البرلمان ومحاكمته بجرائم كثيرة،وما كان مستحيلا قبل انقلاب الجيش ليلة 14 نوفمبر أصبح واقعا.

فبعد أن دانت السلطة لجريس زوجة موجابي غداة إقالته نائبه إيمرسون منانجاجوا بطلب منها تبدَّلت الحال وأصبحت هي وزوجها قائد حرب الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني ونظام حكم إيان سميث العنصري الأبيض جزءا من الماضي عندما أقالته اللجنة المركزية للحزب من رئاسته وفصلتها من عضويته واختارت نائبه المقال بدلا منه رئيسا للحزب والدولة ومرشحه لانتخابات الرئاسة العام المقبل بعد أن كاد يختفي تماما عن المشهد السياسي لفراره إلي جنوب إفريقيا خوفا علي حياته.ووجَّه قادة في الحزب لموجابي اتهامات بأنه سمح لزوجته «المعجزة» التي نالت درجة الدكتوراة في علم الاجتماع من جامعة زيمبابوي في شهرين فقط بأن تغتصب سلطة دستورية دون أن يكون لها حق في إدارة شئون الحكم وبأن تهين موظفين مدنيين (نائب الرئيس) في تجمعات عامة وبأنهما معا أهانا القوات المسلحة وحطَّا من قدرها.وقال قيادي بالحزب إن جريس والمقربين منها استغلوا ضعفه واستولوا علي السلطة ونهبوا موارد الدولة.

هكذا سقط موجابي،الذي وصفه القس الجنوب إفريقي الحاصل علي جائزة نوبل للسلام ديزموند توتو بأنه أصبح شخصية كارتونية نموذجية للديكتاتوريين الأفارقة،غير مأسوف عليه بمجرد أن تخليَّ عنه الجيش نتيجة لتصرفاته الاستفزازية وخطئه الفادح بإقالة منانجاجوا أحد أبرز المناضلين ضد الاستعمار ووزير الدفاع وقائد المخابرات السابق وثيق الصلة بالقادة العسكريين بعد تشبث طويل بالسلطة رغم أنه قال قبل انتخابات عام 2008 التي حلَّ في جولتها الأولي بعد زعيم المعارضة مورجان شفانجراي وكاد أن يخسرها لولا انسحاب الأخير خوفا علي حياته وأنصاره من بطش النظام: مَن يخسر الانتخابات ويرفضه الشعب عليه أن يعتزل العمل السياسي.كما قال ذات يوم إنه سيتنحي عن الحكم عندما تكتمل ثورته،ومرت 37 سنة ولم تكتمل!.

لم تكتمل الثورة لأن سياساته العنترية،خاصة الاقتصادية منها،جلبت الكوارث للاقتصاد فبلغت نسبة البطالة 90% والفقر 74% والتضخم رقما قياسيا لم نسمع عنه في التاريخ المكتوب وهو 231 مليونا بالمائة عام 2008 وتدنت قيمة الدولار الزيمبابوي قبل أن يتلاشي نهائيا إلي 35 ألف تريليون مقابل الدولار الأمريكي الواحد وانخفض متوسط عمر الفرد من 61 سنة عام 1986 إلي 43 سنة في 2003 وتمكن الإيدز القاتل من 13.5% من الشعب وفقا لإحصائيات 2016.وهكذا دمَّر امكانيات واعدة لدولة كانت يوما ما سلة غذاء الجنوب الإفريقي قبل أن يصادر 6000 مزرعة مملوكة للمواطنين البيض ويوزع معظمها علي محاسيب الحزب والمتزلفين الذين لم يستطيعوا زراعتها فتدهور انتاجها بشدة.وأصبحت زيمبابوي تتسول غذاءها من المعونات علي عكس ما فعلته حكومات جنوب إفريقيا بالحفاظ علي المزارع المماثلة والاستفادة من خبرة البيض في زراعتها وعدم انتزاعها عنوة منهم بل بشراء ما يوافق أصحابها عليه مما جعل نسبة ما تم توزيعه علي الفقراء السود لا يتجاوز 30% من عددها رغم انقضاء نحو 23 عاما علي سقوط نظام حكم الأقلية البيضاء المماثل لنظام حكم روديسيا(زيمبابوي حاليا).

حقبة سوداء من تاريخ شعب زيمبابوي المكافح انقضت لكن لم يظهر بعد ما يؤكد أن القادم سيكون بالضرورة أفضل لأن العسكر لم يفصحوا عن توجهاتهم ولا يُعرف مَن الذي سيتولي الحكم وما إذا كان سينجح في قيادة نظام حكم ديمقراطي أوبإمكانه إنقاذ الاقتصاد بمساعدة الدول والهيئات المانحة التي تشترط انتهاج سياسة اقتصادية رشيدة وحكم ديمقراطي يقوم علي التداول السلمي للسلطة ويحترم حقوق الإنسان،فإيمرسون المسمي بالتمساح والموصوف بالداهية السياسي والذي حلف اليمين خلفا لموجابي يعتبره البعض قطعة من نفس القماشة شاركه في كل فظائعه وهجماته ضد قادة المعارضة وأنصارها، وأنه غير محبوب داخل الحزب ولعب دورا رئيسيا كرئيس للمخابرات في قمع انتفاضة لحزب زابو المعارض بقيادة جوشوا نكومو ضد موجابي قُتل فيها 20 ألف شخص قبل اندماج الحزبين عام 1987.ومن المحتمل ألاَّ تتعاون معه الدول والجهات المانحة لإنقاذ الاقتصاد-خاصة أن قائد الجيش شريكه في الحكم- عاقبته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع 18 من حلفاء موجابي عام 2002 بتجميد أرصدتهم في الخارج وحظر سفرهم لقمعهم المعارضة.ولم يبالغ السياسي المعارض ديفيد كولتارت حين قال:خلعنا طاغية ولم نخلغ الطغيان بعد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف