لأنني من الجيل الذي شهد غسيل الشوارع بالمياه والصابون وكنا صغارا نتنافس في الجري وراء عربات الرش التي تملكها البلدية.. سواء كانت تسير بالأحصنة أو بالمواتير فيما بعد.. فإن هذه الصورة الملتصقة في الذاكرة حتي الآن تجعلها نموذجا يرجي أو يحتذي للنظافة المرجوة في المحروسة "مدناً أولاً ثم مجتمعات جديدة.. ثم قري تملك سواعد تطوعية واعية".. وبالطبع بعد علاج جذري لبثور القمامة حالياً.. ومنها ما ذكره الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بأن 45% من المصريين يلقون بالقمامة في الشوارع ناهيك عمن يمارسون هذه الهواية من نوافذ السيارات والمركبات.
لأن هذه الصورة وغيرها أصبحت في ذمة التاريخ.. والتعامل مع سكان مدينة فسيحة لا يتجاوز سكانها مليوني نسمة.. غير الموقف والاستراتيجية والخطط المطلوبة لمدينة تمددت مع المدينتين بل المحافظتين المجاورتين لهما.. وتفننت في ملء الفراغات والظهير الصحراوي في التوسع بأسماء عديدة وأصبح التكدس فيها لا يطاق.. بالإضافة إلي التجريف الزراعي لتختفي سلة الأغذية الذاتية.. وعمادها أراضي الأوقاف.. في المرج والمطرية ومسطرد وشبرا الخيمة.. إلخ.. بهجمة انكشارية حاربت اللون الأخضر.. أزالت سيقان القمح والأذرة والقطن والخضراوات.. لتحولها إلي غابات وأبراج أسمنتية.. سببت العبء الثقيل علي العاصمة وما جاورها.. وكان من أبرز سلبياتها أيضاً تكدس القمامة في جبال متراصة.. اهمال في الأداء موزع بين الشركات الأجنبية التي وفر لها لبن العصفور.. وهيئات النظافة والتجميل المتخصصة في الرقابة ومد يد العون وبين جامعي القمامة الذين احترفوا أيضاً تربية الخنازير والماشية.. وبدأت توابع الخسارة تسيطر عليهم.. بعد مطاردة مزارعهم والتخلص منها مع أنفلونزا الخنازير.
لم تعد الصفقة مغرية بالنسبة لهم.. انسحبوا من الجمع اليدوي من البيوت "أو بنسبة كبيرة" ليدفعوا بالصبية من النباشين والفرازين.. الذين يتواجدون مع عربات القمامة الكارو بجوار حاويات القمامة ليفرز ما فيها من عناصر يجد انها نافعة للمعلم وله.. ويبعثر الباقي علي الأرض في دائرة تتسع قطرها أو تتراجع.. ولكنها كانت بمثابة المشجع للمواطن العادي ليلقي بقمامته في نهر الشارع.. من منزله أو سيارته.. لا يهم.. وفرضت مواقع عديدة نفسها لاستضافة القمامة بجوار المدارس والمساجد ودور العبادة وفوق الكباري.. ودخل في سباق التحدي سيارات حاملة ودعم ورتش المباني.. لم تفلح معهم الجزاءات أو الحوافز ليصلوا بالحمولة إلي المقالب الرسمية.. وباختصار شديد.. تأكد للجميع ان ملف القمامة مازال مفتوحا.. لم تستطع إنجازه البيئة أو المحليات أو المبادرات التطوعية وأصبح ضروريا البحث عن صياغة أسلحة بعيدة للانتصار علي القمامة.. بعد نجاح فكرة شراء المخلفات المعدنية والبلاستيكية عن المواطنين لأكشاك محافظة القاهرة.. وبدأت نظرية الحافز تتمدد دوائرها بإعادة تنظيم جذري للمنظومة تمثلت خطوتها الشجاعة الأولي في انهاء عقود النظافة الأجنبية.. "باعتبارها قضية سلوك وحشد لوعي المواطن حتي لا يلقي بقمامته في أي مكان.. ويصبح مثلما الحال في الخارج بالتعامل المنضبط".. وناقش البرلمان إنشاء شركة قابضة للنظافة يخرج منها شركات تابعة.. تعتمد علي امكانيات هيئات النظافة والتجميل البشرية والفنية ويكون لجامعي القمامة دورهم من المنبع.
** أصبحت العاصمة تترقب التجربة في حي باب الشعرية والوايلي في 10 ابريل القادم.. رؤساء الأحياء سيكون من واجبهم المراقبة المستمرة.. ومنع المزيد من التدني في رحلة الاستلام والتسلم.. وهيئة النظافة ملتزمة بالاتفاق مع متعهدي القمامة من الجمعيات الأهلية والمنزل الملتزمين.. وملامح الخريطة مسئول عنها وزارتا البيئة والتنمية المحلية.. مهمة جامعي القمامة تبدأ من المنازل "كالأيام الخوالي" حتي محطات المناولة الثابتة.. أو محطات المناولة المتحركة.. والأطباء تفيد موافقة مجلس الوزراء لشراء سيارات ومعدات ومكابس.. إلخ.. تلبية للاحتياجات وحتي تبدأ الشركات الوطنية عملها بقوة وتسعي الدولة لإعطاء الفرصة لشركات شبابية للدخول في المنظومة.. وأداء المهمة بروح الانتماء والتنافس وإذا الجميع قد اتفق علي عودة الجمع السكني.. وقيام جامعي القمامة بمهامهم التي توقفت لأسباب معروفة ويمكن علاجها.. فإن الانتصار الحقيقي علي القمامة يتم من باب السلوك.. اللافتة المعتمدة "النظافة من الإيمان" وتحتاج لجهد ديني ومجتمعي وتعليمي وأسري لغرسها في نفوس الصغار والأجيال بكل حزم وتكامل.. لأن السماح بوجود القمامة داخل المدرسة أو علي أسوارها.. يفسد تماما الهدف التربوي.. وكذلك التساهل الأسري في إلقاء الأبناء لبقايا السندوتشات وعلب المشروبات الغازية وأوراق السندوتشات في عرض الشارع لن يجعله أبداً نظيفاً.. صحيح نحتاج لجهد جبار لإغلاق الملف الذي طال مداه.. ولكن الأمر لن ينجح إلا إذا أحس كل منا بمسئوليته الشخصية عن النظافة.. وانها تعني الصحة والجمال.