منذ أربعين عاماً، وبالتحديد فى 19 نوفمبر،1977خطا الرئيس المصرى الثالث الشجاع والشهيد أنور السادات خطوة هائلة بزيارة تاريخية لإسرائيل، فاتحاً لمنطقة الشرق الأوسط مساراً، جديداً ومبتكراً، لإنهاء صراع مستحكم طويل الأمد. ولم يكن هذا القرار هو الأخطر للرجل الذى حكم مصر فى ظروف استثنائية، عقب رحيل زعيم كبير هو ناصر الذى حول مصر الملكية إلى الجمهورية، وخلب ألباب المصريين بأحلام كبيرة، وأعاد إلى أذهانهم مصر القديمة التى عشناها فى صفحات الكتب والتاريخ، إلى أن استيقظ الناس على هزيمة كبرى فادحة، احتلت على إثرها وبعدها شبه جزيرة سيناء بالكامل فى يونيو1967، وتوقفت الملاحة فى قناة السويس، شريان العالم، وتم تهجير أبناء القناة. وعاشت مصر سنوات صعبة ومريرة، إلى أن استيقظ المصريون فى ظهر السادس من أكتوبر 1973، وقواتهم تعبر القناة، وتُسقط خط بارليف، وتقول للعالم إنها تملك جيشاً، يستطيع أن يقف أمام الغرب والشرق من أجل استرداد أرضه وكرامته. وهنا مربط الفرس لنعرف كيف اتخذ السادات قراراً شجاعاً، بهذا الحجم والقوة، بالذهاب إلى العدو فى عقر داره، وإلقائه خطاباً فى الكنيست الإسرائيلى. قرار السادات بالحرب لم يكن مغامرة أو شجاعة غير محسوبة، فالانتصارات فى الحروب فى عصرنا الراهن ليست من ضربات الحظ، ولكنها تتم بالشجاعة والتخطيط والتنفيذ البارع، ويحصل المستحق والباسل والشجاع على الفوز، بقدر ما خطط وجهز. أما قرار السادات بالسلام والسفر والمواجهة المباشرة لمن كان يحاربهم بالأمس، فلم يكن قفزاً فى المجهول، أو ضربة حظ أو مغامرة أو فكرة عابرة غير مدروسة. فمن يقرأ السادات ويسبر غوره يعرف أنه ليس من هذا الصنف، ولم يكن من الرجال الذين تحركهم الأفكار، بل هو نفسه من يصنع الأفكار، ليحرك من خلالها الأحداث، فهو القائد الذى لم يكن طريقه للسلطة سهلا، فمراكز القوى التى ورثها النظام بعد الهزيمة لم تكن هينة، ولم يكن دمج المجتمع ووضعه على نفس مسار الجيش للمعركة سهلاً، بل كان عملا دؤوباً، نجح فيه فى منذ أن جرى انتخابه فى أكتوبر 1970 إلى أن خاض الحرب فى أكتوبر 1973. وإلى كل الناس الذين يقولون إن مبادرة السادات، بالسفر إلى إسرائيل، كانت وليدة خطبة، ولم تكن عملاً مدروساً، أعود لهم بخطابه فى 4 فبراير 1971، وهو يتكلم عن استعداد مصر لفتح القناة أمام الملاحة الدولية، بعد أن تعبر القوات المصرية إلى شرق القناة، ولعلهم يستطيعون قراءة السادات عندما يسمعونه يتحدث بعد النصر، حيث قال: هذه ساعات عرفنا فيها أنفسنا، وعرفنا فيها أصدقاءنا، ونعرف فيها الأعداء، وأننا نتكلم ليس لتبرير أعدائنا، بل إننا نخطو لتوجيه الكلمة بعد الكلمة، والتنبيه بعد التنبيه، والتحذير بعد التحذير، لكى نعطى الكل يراجعون، ولعلهم يتراجعون. وكان السادات هو صاحب الرحلة المشهودة فى قلب التاريخ، تحدث عنها وقبلها بسنوات فى 31 أكتوبر 1973، وبعد هذه السنوات الطويلة اكتشفنا كيف أن معظم المعترضين عليها لم يملكوا الجوهر، فركزوا فى الشكل وإهالة الاتهامات دون ضوابط، أو رادع أو ضمير، وأن ما وضعه السادات منذ اليوم الأول لخطط مفاوضاته ظل هو أجندة الاجتماعات حتى اليوم. -الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى العربية المحتلة- إزالة المستوطنات الإسرائيلية من الأراضى المحتلة - ضمان الأمن والسيادة والسلام الإقليمى- انسحاب إسرائيل من القدس إلى خط الهدنة حسب اتفاقية 1949، وعدم جواز الاستيلاء على الأراضى بالقوة وعودة الأرض والسيادة والإدارة العربية إلى القدس العربية. وبالرغم من الحرب التى واجهها السادات من العرب والمقاطعات له ولبلاده فقد حافظ على العلاقات العربية، لأنه أدرك أنهم سيعودون يوماً إلى صوابهم ليعرفوا ويصححوا أخطاءهم، ويدركوا أن القرار المصرى لم يكن فى مصلحة مصر وحدها، ولكنه كان فى مصلحة العرب، وأولهم القضية الفلسطينية التى لاتزال حية نابضة، ويقود رئيس السلطة الفلسطينية من على أرضه الشعب الفلسطينى ويحصل على اعتراف العالم والأمم المتحدة، وكان البطل الأسطورى الفلسطينى، عرفات قد عاد إلى عاصمة بلاده بعد مبادرة السادات، وكان يُستقبل ويُودع فى العالم كله كرئيس لدولة. إن مبادرة السادات السلمية، وحربه العظيمة هى التى حاصرت المشروع الإسرائيلى، وشكلت منطلقا لمصر والعرب ومنطقة الشرق الأوسط، وحققت أهدافها المباشرة وغير المباشرة، فانسحبت إسرائيل من كل الأراضى المصرية، وإزالة الوجود الإسرائيلى منها. ومن آثارها غير المباشرة تغيير فى العقيدة الإسرائيلية، حيث تُركت الدولة المحمية من الغرب والشرق منذ قيامها بلا حدود، وأطلق أول رئيس وزراء لها صيحته التى لا تغيب عن أبناء المنطقة كلهم، بأن حدود إسرائيل حيث يقف جنود إسرائيل. طبعا هى محمية بأساطيل أمريكا والغرب والشرق معا، ومع ذلك انسحبت وسلمت بالحدود فى مصر والأردن ولبنان، وباقى الحدود الفلسطينية تحت التفاوض وقوتها العربية، وتستطيع أساليبنا فى العمل إعادتها قضية حية لا تموت. أتذكر السادات، صانع الأحداث السياسية والعسكرية الكبرى الذى كرمه العالم بنوبل السلام، ليس تحت وقع التاريخ، ولكننى أتذكره وأنا أرى الإرهابيين مازالوا يقاتلون السلام والاستقرار، فالمجزرة التى ارتكبها الدواعش ( الجمعة 24 نوفمبر 2017) فى مسجد للصوفيين الأبرياء فى بئر العبد بشمال سيناء، وراح ضحيتها أبناء قبيلة السواركة، وهم يؤدون الصلاة، فى واقعة تشرئب لها الأعناق، سطرت فى جبين المصريين آلما عظيماً. فقد أكدت أن معركتنا الداخلية مع الإرهاب، وإعادة البناء، تعادل حروبنا العسكرية، وتتفوق عليها، لأنها حرب ضد أفكار مغروسة فى العقول، يتحول بها الإنسان إلى كائن آخر، يهدم كل شىء وهو فى طريقه إلى التخريب. ولعل الأيام تكشف أن حربنا ضد هذه التنظيمات الإرهابية تستطيع أن تضع مصر فى مكانة جديدة مستحقة، فقد هزمت العدوان الخارجى، وضربت التفكك الداخلى الذى جاء إلى مجتمعنا متسلحاً بأفكار خبيثة، تريد أن يكرس الدين الإسلامى نفسه لتمزيق المجتمعات، ودفعها إلى الفوضى والحروب المستمرة، فاستطاعت مصر بأبنائها، وقف هذا العدوان الصارخ، وإعادة الاستقرار للمصريين.