الدستور
د . أحمد الخميسى
مقتل بائع الكتب.. موت المثقف
فى روايته «مقتل بائع الكتب» يطرح علينا الروائى العراقى سعد محمد رحيم سؤالًا نتفاداه ونشيح بوجوهنا عنه: هل انتهى دور المثقف؟ ألم يعد لنا، نحن المثقفين، من مهمة غير التهكم والاستياء والقراءة والدهشة والغضب والتفسير الصحيح أو الخاطئ لكل شىء، مع التقاعس عن تغيير أى شىء؟ ويتخير لروايته حبكة بوليسية على نمط رواية «اسم الوردة» للكاتب «أمبرتو إيكو»، التى نشرت بالإيطالية عام ١٩٨٠، وفيها يقوم المحقق بدور رئيسى فى جمع المعلومات حول جريمة فى دير رهبان.
المحقق عند سعد محمد رحيم صحفى يكلفه البعض بتقصى الحقائق الخاصة بمقتل محمود المرزوق وإعداد كتاب عن حياته ومصرعه، فيسافر من بغداد إلى بعقوبة، حيث قتل المرزوق، لجمع المعلومات من معارف وأصدقاء القتيل. ويكفل القالب البوليسى للرواية عنصر السرد المشوق، وينعش الكاتب عنصر التشويق باللجوء إلى الحوار الطويل مرة، ومرة بالرسائل التى يتلقاها من معارفه أو التى كتبها المرزوق لصديقته الفرنسية، ومرة بمذكرات القتيل ذاته.
وتضمن الحبكة البوليسية، التى تقطر لنا المعلومات والحقائق شيئا فشيئًا قراءة ممتعة يلهث المتلقى خلالها وراء جمع أطراف الصورة والحقيقة المشتتة. لكن ذلك القالب لا يعنى أن الرواية بوليسية، فهى على العكس تمامًا عمل سياسى واجتماعى من الطراز الأول يعرض لمراحل من تاريخ العراق قبل الغزو والاحتلال الأمريكى وبعده، ولدور المثقف الفرد المعزول إما بحكم شروط الظرف التاريخى أو بحكم تكوينه الضعيف ونقائصه الذاتية، التى تنخر فى قدراته. حياة المرزوق وشخصيته نموذج لحيوات وشخصيات الآلاف من المثقفين العرب، هو فنان رسام سجن قبل الاحتلال الأمريكى، لأنه كان قريبًا من الماركسيين رغم أنه لم ينتسب لتنظيم، وركب قطار الموت إلى السجن فى نقرة السلمان، ثم خرج وهاجر إلى تشيكوسلوفاكيا وبعد ذلك إلى فرنسا ثم قرر أن يعود إلى العراق وأن يفتح محلًا لبيع الكتب، وفجأة يتم اغتياله.
تكشف المذكرات والرسائل عن حبه لناتاشا الروسية فى براغ، كما تكشف، حسب قول المرزوق نفسه، عن جبنه وخوفه من أن يقول الحقيقة ليفتدى ناتاشا وينقذها من أيدى المخابرات التشيكية، ووفقًا لرسائل أخرى كان المرزوق فاجرًا قادرًا على إغواء فلاحة بسيطة والتخلى عنها، وهو أيضًا ثرثار لا يكف عن إطلاق النكات والسخرية من كل شىء والاستشهاد بكافكا وسارتر وماركس وألبير كامى، يرسم لوحات تنم عن نصف موهبة، أو موهبة لم تتحقق، ولم يقم فى حياته بعمل ملموس لتغيير الواقع، لكنه كمعظم المثقفين قام بتفسير الواقع بشتى التحليلات من دون السعى لتغييره. وعندما يقول له أحد أصدقائه: «ماذا تنتظر هنا غير الموت؟» فإنه يعقب على ذلك: «كأنه يقرأ ما فى رأسى»! ماذا غير الموت؟ إنه كما يصفه أحدهم: «بطل من هذا الزمان»، إنه رمز لموت المثقف، والدور، والمهمة، والمشاركة الحية.
وسنجد لدى سعد محمد رحيم نماذج أخرى لمثقفين مهزومين، تخلوا عن دورهم، أو لم يعد لهم دور، مثل صديقيه اللذين تعرف إليهما فى باريس: «أندريه» و«محمد المنياوى»، الذى يقول للمرزوق: «ابحث عن خلاصك الشخصى فعصر البطولات قد انقضى»! ومثل الحاج الهادى منصور، الذى كان يساريًا فيما مضى، وارتد إلى الغيبيات، كلهم مثقفون مهزومون، لا يجدون أنفسهم، ولا يرون لأنفسهم دورا ولا تأثيرا. إنهم يفسرون ولا يغيرون، يتكلمون ولا يفعلون. الأكثر إيلامًا أن تحقيقات الراوى المكلف بكتابة كتاب عن المرزوق تنتهى إلى مفاجأة من العيار الثقيل: لقد تم قتل المرزوق خطأ، ولم يكن هو المقصود على لائحة من اغتالوه فى آخر النهار فى شارع الأطباء بمدينة بعقوبة. حتى موت المثقف أصبح عبثيًا بلا معنى، بالمصادفة، أو بالخطأ، لكنه خارج سياق رحلة تحقق ذات معنى.
استطاع سعد محمد رحيم أن ينجو من مطبات روائية كثيرة كان يمكن لأى روائى أن يقع فيها، كأن يتكلم بحماسة عن مواجهة الاحتلال الأمريكى، أو المقاومة الوطنية، أو الوطن المستباح، لكنه بدقة الكاتب الشديدة تجنب كل ذلك، واستطاع أن يفى السرد والصور حقها لكن بإيجاز قاطع. نحن إزاء عمل ممتع جدير بالقراءة، لكنه يفتح الباب أمام سؤال واضح: هل حقا مات المثقف؟ وانتهى دوره؟ هل لم يستطع الروائى فى لوحة الواقع العربية المعقدة أن يجد أملًا أو نموذجًا آخر إلى جوار كل تلك النماذج من المثقفين المهزومين؟ ألم يستطع أن يرى فى نصف الكفاح، نصف المحاولة، نصف السعى، عملا قد يصبح يومًا كفاحًا وسعيًا كاملًا؟ على أية حال تظل رواية «مقتل بائع الكتب» تؤرق من يقرأها، وتستحثه باللوحة القاتمة على الإمساك بالفرشاة وصبغ الواقع بألوان أخرى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف