د. مجدي العفيفي
العدسة الوحيدة التي صورت سيدنا محمدًا
دخلت الروضة النبوية الشريفة وخرجت.. ومارست كل الأحاسيس.. أحاسيس لم أمارسها من قبل.. ولم أمارسها من بعد...
لحظة أن تتهيأ لدخول المسجد النبوي، يغشاك موج من فوقه موج من المشاعر، يتغشاك فلا تتمنى الإفاقة ولا الدخول ولا الخروج ولا القيام ولا القعود ولا الصعود ولا الهبوط ولا أية حركة.. حدث لي هذا..
كان السكون المتفجر بالأحاسيس، والسكوت المتزلزل بالخشوع.. لحظات خارجة عن الزمن العادي والإحساس العادي والشعور العادي، وكل ما هو عادي ومعروف ومألوف وموجود..
لحظات تعصف بالنظام الثابت للأشياء بداخلك، وتخل بالتوازن، وتحتل كلك، وتحل في ثناياك.. وحناياك.. وخلاياك..
(الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)..عبارة مشحونة بالمعاني.. قل هي سراج.. نور.. نار.. ضوء.. مصباح.. مشكاة.. كل مشتقات النور تنبعث من هذه العبارة النورانية وأنت تتهيأ للدخول إلى محراب النبي الكريم أو وأنت تودع المكان وصاحبه عليه سلام الله وبركاته وطيباته ونفحاته وتجلياته.
قضيت في الروضة الشريفة ثمانية أيام وليال.. لا تحسب من العمر.. ولا بالعمر.. ولا في العمر! أجمل وأصفى الأوقات وقت السحر.. في عز الليل.. قبل أن تتدفق موجات المحبين على المحبوب الذي كل من دونه محب وهو حبيب الله.
في الحجرة النبوية الشريفة كنت أسترق النظر طويلًا.. أرى وأنظر وأشاهد وأرنو وأحدق وأرمق وأدقق.. كنت أمارس كل أفعال (الرؤية) و(الرؤيا).. وكانت تجليات الرؤيا أقوى وأشد وأرق وأدق.
كيف كنت يا سيدي يا رسول الله.. ما ملامحك.. معالمك.. جمالياتك.. تشكيلاتك.. لا بد أن لك صورة فالنظر إليك يعطي إشعاعات اليقين ويعطي إشعاعات الإيمان، والدليل على ذلك أن من رآك كان صحابيًّا.
ورسول الله عند ربه بالمكان الذي نعرفه وهو عند المؤمنين به بالمكان الذي يرضى الله عن وجوده في نفوس من آمن به.
ورسول الله حينما يتكلم المنصفون عن صفاته الخلقية إنما يتكلمون عن صدى ما استمالتهم صورته استمالة كان قيد الناظر إليه، أي أن الناظر إليه كان يقيده كل حسن فيه وما ذلك إلا لأن (الطاقة الحبيّة) و(الطاقة القلبية) لا تجعل الناظر إلى رسول الله معدى عن استدامة النظر إليه، ومعنى ذلك أن للرؤية الذاتية تأثيرًا في كيان المؤمن برسول الله.
وكون الواصفين له يدققون الوصف له في أدق الأشياء يدل على أنهم لم يفتهم شيء من صفاته.. وإن اختلف الواصفون في شيء فإنما هو اختلاف اللقطات أو اختلاف التعبير عن اللقطات، فإن آلات التصوير حينما تصور إنسانًا فعلى قدر جودة الآلة وعلى قدر قدرة ومهارة من يستعملون هذه الآلة، تخرج الصورة طبق الأصل، ولكنهم في الجملة يلتقون على أشياء، هذه الأشياء تميزه ببينة كاملة متكاملة بحيث يكون للقلب منه غذاء، وللعين منه غذاء، وللأذن منه غذاء، بمعنى أن إدراكات المؤمن كلها يكون لها غذاء منه.
بحثت عن الكاميرا التي صورت التشكيل الجمالي لرسول الله أو حليته، ومناقبه الخلقية والخلقية، ووجدت الكاميرا أو العدسة لدى سيدنا الحسن وسيدنا الحسين رضي الله عنهما وأرضاهما، ولدى خالهما هند ابن أبي هالة.. الذي دلني على هذه العدسة هو فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي يوضح هنا إشعاعات اليقين والجمال والإيمان في العدسة والكاميرا التاريخية.
يقول الحسن: سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله، والتعبير هنا بكلمة (حلية رسول الله) ولم يقل عن صفة رسول الله، دليل على أنه يلحظ أن كل وصف فيه حلو، فكأن وصوفه كانت حلية في ذلك الكمال النبوي،.
فقال هند: (كان رسول الله فخمًا مفخمًا)، ومعنى فخمًا مفخمًا أن العين لا تتقحمه، ساعة ينظر إليه الإنسان يجد له فخامة.. يجد له عظمة.. يجد له هيبة.. إذن لا تتقحمه العين يعني أعطي شيئًا من الجلال وشيئًا من المهابة، وهذا أمر يتطلبه موضعه من رسالة الله في الأرض.. ثم ينتقل إلى وجهه ليعطينا الصورة.. والوجه هو السمة الأصيلة في تشخصات الأشخاص، فيقول: (يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر).. وبعد ذلك يعطينا الفكرة عن قوامه فيقول: (هو أطول من المربوع وأقصر من المشذب)، والمربوع الذي كما نقول في عرفنا: إنه مربع، يعني: طوله أقرب من عرضه.. والمشذب هو الطويل البائن في نحافة.. تخيل الصورتين الطويل البائن الطول في نحافة والرجل المربوع الذي يكاد طوله يقرب من عرضه.. الصورة إذن ليست الصورة الكمالية التي توجد للطول.. هو أطول من المربوع وأقصر من المشذب.. يعني بين بين.. يعني هو في أوسط القوام.. وبعد ذلك يقول (عظيم الهامة)، ومعنى عظيم الهامة أن رأسه وما يحمله من رقبة ساعة تراه ترى عظمة تستميل وتستلفت النظر.. وبعد ذلك يقول عنه (وكان رجل الشعر)، والرجل من الشعر هو الذي بين الجعودة والسبوطة، يعني بعرفنا ليس بالشعر الناعم أو الشعر المجعد، يعني أنه شعر متموج.. وبعد ذلك ينتقل من موضوع شعره فيتكلم عن شيء آخر.. يتكلم عن لحيته يقول: (كان كث اللحية).
وبعد ذلك ينتقل إلى عينيه فيقول (أدعج)، والأدعج هو من كان سواد عينيه شديدًا.. وبعد ذلك ينتقل إلى شيء آخر فيقول (كان ضليع الفم)، أي متسع.. وهذا أمر تحمده العرب.. خصوصًا فيمن كانت رسالته البيان، ولذلك يقولون: مفوه.. أي يتكلم بالكلام، وفمه ليس ضيقًا بحيث يحجز الصوت حجزًا يجعله أشبه بالصفير ولكن الصوت يأتي من كل جوانب فمه، وذلك أدعى إلى أن يأخذ الصوت كل الأنغام التي تؤثر في السامع. وبعد ذلك يقول (أشنب)، والشنب في لغة العرب أن أسنانه رقيقة دقيقة.. فيها مائية تعطي بريقا.. وبعد ذلك يقول (مفلج الأسنان)، يعني فيه فضاء بين أسنانه، وذلك أدعى إلى طيب الفم، لأن بقايا الطعام لا تتخلل الفضاء بين أسنانه فتتعفن، وبعد ذلك يقول (معتدل البدن متماسكا)، ومعنى متماسك أن سمنته ليست مترهلة أو كما تقول مضمر، إن كان فيه شيء من السمنة فليس من السمنة المستلقية.. وبعد ذلك ينتقل نقلة أخرى فيقول (وكان ضخم الكراديس)، ومعنى ضخم الكراديس أنه منبسط، يعني ليس كالأحدب أو المجتمع أو المنقبض بل هو مفرود القوام.. وبعد ذلك يتكلم عنه فيقول: (وكان أشعر الذراعين)، أي ذراعه به شعر، والمنكبان وأعالي الصدر موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالفرط، يعني أنه دقيق.. شعرة متواترة وراء شعرة.. فانظروا إلى هذه الدقة التي استوعبت حليته.
وبعد ذلك يقول (خمصان الأخمصين) أي أن وسط قدمه بالداخل لا يلتصق بالأرض، وهذا عيب، خصوصًا فيمن يطلب منهم أن يكونوا عدائين، وهو ما يسمى "فلات فوت"، ومع ذلك كان يقول وكان (مسيح القدمين)، يعني أنه لا توجد تجاعيد في بشرته.. فإذا صببت عليهما الماء لا يحتجز منه شيء بل يسيل عنهما الماء ويتدحرج عليهما كأنهما من البللور.. وبعد ذلك ينتقل إلى وصف آخر فيقول: (كان شثن الكفين والقدمين)، ومعنى ذلك كما نقول في أعرافنا غير ظاهر العروق.. (وكان سائل الأطراف) يعني أصابعه فيها شيء من الطول والاسترسال.
وحينما يتكلم بعد ذلك عن رسول الله ينتقل إلى شيء آخر فيقول (وكان دائما خافض الطرف)، يعني مغمضا بعض الشيء.. (نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام)، ومعنى يسوق أصحابه أنه حينما كان يمشي دائما يكون أصحابه أمامه ويكون هو خلفهم.. ولما سئل عن ذلك مرة قال: (خلوا ظهري لملائكة ربي).. ويبدأ من لقيه بالسلام.. وذلك شأن المتلطف.
تأخذني الرؤيا الجميلة، وتجليات الرؤية وأتساءل عن (منطق) رسول الله الأسوة الحقيقية هي فيما يصدر عن هذه الذات الكاملة من الصفات الخلقية التي يمكن أن يكون للأسوة فيها مجال، وأتسمع هذه الصورة في المحاورة بين سيدنا الحسن وخاله هند:
(كان متواصل الأحزان)، أي أنه كان يحزن للمهمة التي كان يقوم بها.. وهذا الحزن هو ما يفسره الحق في قوله سبحانه وتعالى: {لاتحزن} {ولعلك باخع نفسك على آثارهم}.. حينما يجد انصرافًا عن الدعوة هي دعوة متضحة في ذهنه وبفطرته.. وبتكوينه يعجب أن هؤلاء لا يؤمنون بها.. فهو يحزن لهم ولا يحزن لأمر يتعلق به هو.. ولذلك يجب أن نلتفت جيدا إلى أن الحزن من رسول الله إنما يؤخذ لو أن الحزن كان لأمر يتعلق بشيء ناله، ولكن الحزن كان لأمر يتعلق بشيء ينال الآخرين.. وهذا يدل على حرصه فقال عنه (كان متواصل الأحزان دائم الفكرة)، دائم الفكرة لأن مهمته تستلزم هذا.. كيف يقابل هؤلاء؟.. كيف يكون منهج الدعوة؟.. ماذا يصنع في أتباعه المضطهدين؟.. ماذا يصنع في القوم يتكالبون على الضعفاء ويريدون أن يفتنوهم عن دينهم؟.. وبعد ذلك يقول: (وكان طويل السكوت).. ثم ينتقل إلى كلامه فيقول: (يفتح الكلام ويختمه بأشداقه)، يعني بعرفنا لا يتكلم من طرف مناخيره.. فكلامه يملأ فمه حتى يأتي من هذا الشدق.. وبعد ذلك قال: (يتكلم بجوامع الكلم)، لأن عنده إعجازًا، وما دام عنده إعجاز إذن فيمكن أن يلم كثيرًا من المعاني في اللفظ الموحي والمعبر.. (يقول القول فصلا لا فضول فيه)، أي لا زيادة فيه على المطلوب.. ولا تقصير فيه عن المطلوب.. وبعد ذلك يقول: (كان دمثًا) ومعنى دمثًا أنه كان لين الخلق يأنس إليه من يلقاه.. ويأنس إليه من ينظر إليه. ويأنس إليه من يتحدث إليه.. يقول (لا يذم ذواقا ولا يمدحه)، أي لا يذم طعامًا قدم إليه ولا يمدحه.. لا يذمه لأنه نعمة.. ولماذا لا يمدحه؟.. لأن مدح أي ذواق ربما كان تعريضا، لأن الطعام الآخر الذي لم يمدحه مكروه، لا يذم ذواقا ولا يمدحه.. (لا يقاوم غضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، ولكنه كان لا يغضب لنفسه ولا يستفزه شيء).
وبعد ذلك يتكلم عن حركته الأدائية حين يتكلم فيقول: (إذا أشار بيده كلها) يعني لا يشير بالإصبع كما اعتاد الكثير من الناس.. ولكن لماذا إذن أشار بكفه كلها؟.. فكأنه ادخر المسبحة للتوحيد فقط.. لا يشير بها إلا لتوحيد فقط.. فيشير بكفه كلها.. (وإذا تعجب قلبها)، أي إذا تعجب من أمر صار يقلب كفه. (وإذا تحدث اتصل بها)، ومعنى اتصل بها أن يضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى.. (وإذا غضب أعرض وأشاح)، ومعنى أنه إذا غضب أعرض وأشاح أنه رؤوف حتى في حالة غضبه.. لا يريد أن يرى من أغضبه شكله وهو غضبان.. (وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم)، أي لا يقهقه.. ويفتر عن مثل حب الغمام.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
وفي ضياء شهر ربيع الأول تتواصل عيون العدسة التي تستدعي جمال وجماليات صورة سيدنا محمد صلى الله عليه وملائكته.. وإلى اللقاء في المشاهد القادمة.