الوطن
حسن ابو طالب
الأزهر وفتنة التكفير والتكفير المضاد
ابتلينا بالإرهاب وتفسيراته، وابتلينا معه بإشكالية التكفير والتكفير المضاد. إعلاميون ونواب فى البرلمان وشيوخ نجوم فى الفضائيات يطالبون بتكفير جماعات الإرهاب وأحياناً يفتون بذلك قطعاً، ويرون أنه من قبيل العين بالعين والسن بالسن. ناقدون لموقف الأزهر الشريف يرون فى امتناعه عن تكفير مجرمى داعش القتلة موقفاً تراجعياً لا يليق فى مواجهة هؤلاء الخوارج المفسدين. النقد قائم على تصور مبسط بأن تكفير من يكفرك سيقضى على الإرهاب، أو ينزع عنه الشرعية، بينما الإرهابيون أنفسهم ومن ورائهم جيش آخر من المفتين والمحللين الدينيين محل التقديس من عناصر الإرهاب لا يعبأون بمن يُكفرهم أو يُخطّئ مقولاتهم التى يعتبرونها شرعية وأصلاً من أصول الدين، وأن من يخالفها يستباح دمه.

التكفير فى اللغة أصله الُكفر، وفعله كّفر يعنى الحجب والإنكار والستر، وفى المصطلح الدينى هو نقيض الإيمان وإنكار بَيّن للربوبية والوحدانية وبمحمد ورسالته وبكل تعاليمه كما جاءت فى القرآن الكريم والسنة الشريفة. والتكفير يعنى إلقاء تبعة الُكفر على من يحجب عن نفسه الإيمان بالله وبرسوله شرط أن يكون ذلك بالقول والفعل غير القابل للجدل أو التأويل.

يرفض الأزهر الشريف أن يُكفّر من يُكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم وأعراضهم. هكذا يتم وصف موقف الأزهر. فى العبارة إشكالية كبرى، فكيف لا نكفر من يكفرنا ونفعل به ما يفعل بنا. هكذا قال أحد نواب البرلمان. ظاهر الأمر يبدو كأننا فى سجال فكرى أو سياسى ليس له تبعات على المجتمع، أو كما يقال واحدة بواحدة. الداعون إلى تكفير الإرهابيين يرون فيه قدراً من الراحة الممزوجة بالانتقام المعنوى لمن أساءوا للدين وتجاوزوا على الأنفس البشرية شر تجاوز بالترويع والقتل بمبررات وتأويلات فاسدة شرعاً وقانوناً. الأزهر بدوره يرى فى هؤلاء الإرهابيين القتلة خوارج ومفسدين فى الأرض يقع عليهم حد الحرابة. الامتناع عن التكفير مرتبط بموقف شرعى مُتفق عليه بين أهل السنة يستند إلى ضوابط محل إجماع من الأقدمين والمحدثين، ومسنودة بأحاديث شريفة للنبى محمد عليه الصلاة والسلام. وهناك أيضاً أنواع من الكفر ودرجات من العقاب بعد الاستتابة.

فى موقع دار الإفتاء المصرية وفى كثير من المراجع الثقاة ملخص لتلك الضوابط الشرعية فى مجال التكفير، فلا تكفير لمسلم لذنب اقترفه وإن كان كبيراً، أو لكبيرة فعلها، فقد يتوب الله عليه ويغفر له ذنبه ما دام أقل من الشرك بالله. والتكفير لا يكون على التعميم لمجموعات من الناس غير معروفة بعينها وذاتها، وإنما يقع على التخصيص لمن أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى وجحد بمحمد ورسالته وأنكر ما حرمه وأقر ذلك قولاً وفعلاً، وهذا يستتاب أولاً ثم إن لم يتراجع وجب عليه الحد، ولا يفعل ذلك إلا أولو الأمر، ولا يُقر بكُفر أحد إلا القضاة والمفتون الثقاة، وليس لأحد من عموم الناس أن يُكفر أحداً آخر مهما بدا عليه من مظاهر الذنوب، فالحكم على ظاهر الذنب لا يصل أبداً إلى حد التكفير. وقد يعتقد المرء فى الكفر ولكنه لا يظهر ذلك فلا توجد قرينة، ولا يمكن لأحد أن يحكم على عقائد مخفية، فالنوايا مرجعها إلى الله سبحانه وتعالى. مثل تلك الضوابط وغيرها تقيد إطلاق التكفير على الإرهابيين حتى وإن أطلقوا هم هذا الحكم على غيرهم.

عملياً ما الذى يمكن أن نتوقعه إن خضع الأزهر أو أى مؤسسة دينية معتبرة على إطلاق حكم بالتكفير على مجموعة من الناس ليسوا معلومين لنا مثل أعضاء الجماعات الإرهابية المختفين عن الأنظار، والمتعاطفين معهم عن جهل وغياب عقل؟ المؤكد أن حكماً كهذا سيناقض ما سلف قوله عن ضوابط هذا الفعل، وسيقود إلى فتنة كبرى فى المجتمع، وسيزيد من غلبة الإرهاب والإرهابيين، ففى البداية ستقع تلك المؤسسة فى نفس الدائرة التى يتحكم فيها الإرهابيون أنفسهم، وعندها سيقول الناس ما الفارق بين تلك المؤسسة وجماعات الإرهاب التكفيرى، فكلاهما يكفر من يختلف معه. سيكون الأمر بمثابة هدية كبرى ما بعدها هدية أخرى لمن يوصفون بشيوخ الإرهاب. سيقع الأمر فى أيدى جهلاء، عندها لن يستطيع أحد أن يمنع جاهلاً تأثر بحكم التكفير الصادر عن مؤسسة دينية معتبرة فى أن يقوم بتوقيع الحد بنفسة متصوراً أنه بذلك يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى لأنه يخلص المجتمع من «كافر». الفعل هذا هو فعل الإرهابيين أنفسهم، وليس فعل مؤسسة دينية معتبرة تدعو إلى الوسطية. باختصار إن حدث الأمر ووقع المحظور ستصبح تلك المؤسسة بمثابة داعية للناس أن يكونوا إرهابيين على بعضهم البعض.

إنه فخ كبير إن حدث ما يتصوره البعض أنه مجرد حكم تصدره مؤسسة دينية معتبرة ونافذة ليس فى مصر وحدها ولكن فى الكثير من بلاد المسلمين. الأزهر ومهما نوجه له أحياناً من انتقادات على موقف هنا أو تفسير هناك أكبر من أن يقع فى هذا الفخ، فلا تصوروا الأمر ببساطة وهو فى الواقع جلل عظيم. سد أبواب الفتنة مُقدم على ما عداه، وصف الإرهابيين بالفسوق والظلم والإفساد فى الأرض وبالخوارج هو وصف شرعى قاس، وله أيضاً ضوابطه وله عقوباته القاسية فى الدنيا والآخرة، ولولى الأمر ممثلاً فى المؤسسات القانونية الشرعية أن تُحاسب وتُعاقب وفقاً لحجم الجرم، فمن قتل يقتل ومن أفسد يُسجن أو يشرد فى الأرض، وله أيضاً عقابه فى الآخرة وتلك بيد الله سبحانه وتعالى فهو أعلم بالنفوس وشقائق القلوب، وليس بمقدرة إنسان أو مؤسسة دينية مهما علا شأنها أن تحدد حجم العقاب الأخروى، وهو بالقطع سيكون عظيماً لكل من أفسد وقتل بدون حق، ولكل من روّع مسلماً أو غير مسلم أو استباح دم غيره متجنياً بذلك على تعاليم الدين وأصوله وعلى ولى الأمر وعلى المجتمع ككل.

إن قامت مؤسسة دينية وأعطت لنفسها حق تكفير وحجب الإيمان عن فرد أو جماعة بدون إعمال الضوابط الشرعية فسنكون أمام تجربة تحاكى وتماثل ما كان فى أوروبا فى عصورها الوسطى السوداء، حين كان للكنيسة حق مطلق فى منح صكوك المغفرة والعفو ودخول الجنة أو حجبها عن عموم الناس. فمن يملك حق وصف الآخر بالإيمان يملك أيضاً حق حجب ذلك الإيمان عنه. الأزهر أكبر من ذلك، والعقل والحكمة تقتضى الابتعاد عن المواقف والسلوكيات الملتبسة بالشبهات، والتى يزيد ضررها على أى فوائد متخيلة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف