بعض المحسوبين على السياسيين، الصحفيين، الإعلاميين، أو الكتّاب، صارت مهمتهم هي التقليب بعصاهم داخل أيّ سلة قمامة أو صفيحة زبالة، بحثًا عن أيّ شيء ذي رائحة كريهة يبنون عليه آراء، تصورات.. وتحليلات، تشم عفونة رائحتها، لو كنت على بُعد ألف ميل أو يزيد!.
مؤخرًا، خرجت العصا بتصريحات لـ«جيلا جملئيل»، وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية، قالت فيها إن «أفضل مكان يمكن أن يقيم فيه الفلسطينيون دولتهم هو سيناء». وعلى رائحة تلك «الهلاوس»، انفجرت الحناجر وخرجت الخناجر وانطلقت الروائح العفنة من مختلف المنابر، مع أن تلك «الهلاوس» سبق نفيها، مصريًا وفلسطينيًا، ثلاث مرات على الأقل: في سبتمبر ٢٠١٤ وفي أبريل ٢٠١٦، وكان سبب النفي الثالث، تغريدة على «تويتر» كتبها أيوب قرا، في ١٤ فبراير الماضي، قبيل زيارة رئيس حكومته إلى واشنطن.
الدرزي، الذي كان وزيرًا بلا حقيبة وتولّى لاحقًا وزارة الاتصالات، كتب: «سوف يتبنى ترامب ونتنياهو خطة الرئيس المصري السيسي بإقامة دولة فلسطينية في غزة وسيناء». ووقتها رد عليه الإسرائيليون قبل المصريين والفلسطينيين. إذ طالب إسحق هيرتزوج، زعيم المعارضة الإسرائيلية، بإقالته ووصف مزاعمه بأنها «خطيرة جدًا وما كان لها أن تصدر عن مسئول إسرائيلي». وقال إنها «تضر علاقاتنا مع مصر التي ليس من المعقول أصلًا أن تقوم بذلك». وغير «هيرتزوج»، تهكّم كثيرون وسخروا، قبل أن يقوم «نتنياهو» بنفي تلك المزاعم.
صحفيون سألوا رئيس الوزراء الإسرائيلي في واشنطن، الخميس ١٦ فبراير، عن تغريدة «قرا»، وعما إذا كان قد بحث إقامة دولة فلسطينية بسيناء في لقائه مع الرئيس الأمريكي، فأجابهم بأن «هذه الفكرة لم تكن مطروحة ولم يتم بحثها بأي شكل من الأشكال ولا أساس لها». ومساء اليوم نفسه، قال المتحدث باسم الخارجية المصرية لبرنامج «مساء dmc» أي لزميلنا أسامة كمال إن «هذا الكلام لا أساس له من الصحة ولا يمت للواقع بأي صلة». والمعنى نفسه الذي تكرر في بيان، أصدره المتحدث باسم الرئاسة، الخميس ٢٣ فبراير، أكد فيه أنه «من غير المتصور الخوض في مثل هذه الأطروحات غير الواقعية وغير المقبولة».
كنت قد تناولت تلك التغريدة وتتابعاتها، وأوضحت أن محتواها سبق أن نفاه الرئيس عبدالفتاح السيسي، بشكل قاطع، في «يوم المعلم»، ٨ سبتمبر ٢٠١٤، وقال بالنص: «مفيش كلام من ده.. ما حدش يملك.. ما حدش يملك يعمل كده.. ما حدش يملك.. إنما أنا قصدت أقولها لكم اليوم، عشان أقول إن إنتم لو حصنتم عقول أولادنا وبناتنا مش حايكونوا محتاجين مني إن أنا أنفي ده.. خالص.. فأنا أقصد بالواقعة اللي جبتها، إن عملية استهداف الوطن من الداخل والخارج قضية مش حاتنتهي، وإن فيه فرق بين ممانعة بجيش وشرطة وممانعة بشعب، شعب مدرك وواعٍ وواقف ورا بلده، ما حدش حايقدر يضحك عليه.. وما حدش يقدر يغلبه».
الواقعة التي ذكرها الرئيس «أو جابها»، كانت خبرًا كاذبًا تناقلته بعض وسائل الإعلام، صباح ذلك اليوم، «الإثنين ٨ سبتمبر ٢٠١٤»، جاء فيه أن الرئيس السيسي اقترح على نظيره الفلسطيني محمود عباس، خلال زيارته للقاهرة، إقامة دولة فلسطينية على جزء من سيناء. وكان مصدر الخبر الكاذب وسائل إعلام إسرائيلية. ويومها، وصفت الخارجية المصرية هذا الكلام بأنه «مزاعم وأكاذيب». ويومها أيضًا، كشف مسئولون فلسطينيون أن هذا العرض سبق أن طرحه محمد مرسي العياط، مندوب «الإخوان» في قصر الرئاسة، ورفضه الرئيس الفلسطيني.
تيسير جرادات، الذي كان يرافق الرئيس الفلسطيني في زيارته للقاهرة، أكد أن الرئيس السيسي لم يتحدث أو يلمّح بعرض كهذا، وأن «هذا العرض طرحه الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي على حركة حماس، ورفضه الرئيس عباس». ووصف نبيل أبوردينة، المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية، هذه المزاعم بأنها «مجرد فقاعات وتلفيقات إسرائيلية لها أهداف مشبوهة»، ودعا وسائل الإعلام إلى «توخي الدقة والمسئولية الوطنية والقومية قبل الانجرار وراء ما ينشره الإعلام الإسرائيلي».
ما حدث في ٨ سبتمبر ٢٠١٤، تكرر في ٥ أبريل ٢٠١٦ ونقلته أيضًا وسائل إعلام عربية ومصرية للأسف، عن وسائل إعلام إسرائيلية: مقال كتبه ماتي ديفيد ونشره موقع «نيوز وان» العبري. وأيضًا، تم نفيه مصريًا وفلسطينيًا. ومع النفي والتوضيح، تكررت مطالبات وسائل الإعلام بأن تتوخى الدقة والحذر، وبأن تنتبه ولا تنجر. غير أن وسائل الإعلام العربية والمصرية، لم تنتبه وانجرّت ورددت دون حذر أو تدقيق هلاوس «أيوب قرا» في ١٤ فبراير ٢٠١٧ ثم عادت وانجرت ورددت «هلاوس» جيلا جملئيل!.
ما يثير الدهشة، الغيظ أو القرف، هو أن روائح آراء، تصورات.. وتحليلات أصحاب الحناجر المنفجرة، ما زالت منتشرة، حتى بعد تصريحات سامح شكري، وزير الخارجية، الإثنين ٢٧ نوفمبر الجاري، التي جدد فيها رفضه تناول أي شأن مصري أو الحديث عن أراضٍ مصرية من أي جهة أو التفكير في أي نوع من الانتقاص لسيادة مصر على أراضيها خصوصًا سيناء التي «ارتوت بدماء المصريين دفاعًا عنها، وذرة واحدة من ترابها ليست محل التنازل عنها أو أن يعتدي عليها أحد».
..ولا تبقى غير الإشارة إلى أن الآراء، التصورات.. والتحليلات، ذات الروائح العفنة، لا تعني بالضرورة، أن المُعلّمين ومَنْ شاركوهم الاحتفال بيومهم، قبل ثلاث سنوات، سياسيين، صحفيين، إعلاميين.. وكتّابًا، فشلوا في تحصين عقول أولادنا وبناتنا ضد الأكاذيب والهلاوس. فربما كان السبب هو أن مَن انفجرت حناجرهم وخرجت خناجرهم، بلا عقول أصلًا!.