التحرير
نبيل عبد الفتاح
مسارات التجديد في الفكر الديني.. التمدد والانحسار
كشفت الحملة الفرنسية، ومدافع نابليون عن صدمات الحداثة في الحرب وخططها وأساليب عملها، ونوعية التسليح، وأن الانتصار فيها لا يعتمد على الشجاعة الفردية أو الجماعية للفرسان والجنود، وأنما التخطيط العسكري، والأسلحة المتطورة آنذاك، وفق مستويات عصرها، والعلم هم الأكثر نجاعة في تحقيق الانتصار، وغزو مصر! الجسارة الفردية والسلاح القديم الذي يعاد إنتاجه ليس كافيا للدفاع عن البلاد، صدمات الحداثة ظهرت وتحدت العقل الدينى الاتباعي والنقلي، الذي اعتمد على أن رجال الدين والقادة والجنود، وتلاوة الدعاوى الدينية على الغزاة كافية لردهم إلى نحورهم، وليس العلم والتخطيط والسلاح والإبداع العقلي، والإيمان بأسس وقوانين المعرفة الحديثة.

من هنا كان احتلال مصر، مدخلا افتتاحيا داميا لبدء أسئلة نهاية القرن التاسع عشر حول: لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ تعددت الإجابات عن هذه الأسئلة من رواد الإصلاح، وكان أكثرها واقعية وفهمًا لسياقات التغير، هو مشروع بناء دولة محمد علي، وتأسيس قواعد الدولة الحديثة، ومن بينها ضرورة تشكيل نظام إداري، وجيش حديث، وإرسال البعثات التعليمية الخارجية إلى أوروبا وفرنسا على وجه التحديد، لكي يستطيع هؤلاء المبعوثون نقل المعارف والعلوم الحديثة، وكذلك تصفية الأساس الاجتماعي لعلماء الأزهر من خلال إلغاء نظام الالتزام، واعتماد الأزهر على الدولة.
من أبرز مظاهر التحدي التى اكتشفها بعض الإصلاحيين، ضرورة تجديد الفكر الدينى الوضعي، خاصة فى ظل التطورات التي تحدث في النظام الرأسمالي الدولي، ومن ثم ضرورة الانتقال إلى النظام النقدي وقواعده الرأسمالية مع تجارة القطن، ودمج الاقتصاد المصري ضمن بنية النظام الرأسمالي الدولي مع إسماعيل باشا.

كانت هذه العملية التاريخية، تتطلب ضرورة تحديث الأنظمة القانونية من قانون التقاليد والأعراف والدين والحرف إلى القانون الوضعي الحديث. من هنا شكلت صدمة التحديث السلطوي للقوانين، إحدى بشائر تحدي العقل الدينى النقلي والاتباعي السائد. ثمة استجابة مهمة برزت في مشروع الشيخ الأزهري خليفة المنياوي الذي صاغ تقنينا مدنيا مستمدا من مصادر الشريعة الإسلامية وفق المذهب المالكي، إلا أن طبيعة عملية التغير ودمج الاقتصاد المصري وتجارة القطن، تطلبت استبعاده، واستعارة القوانين الوضعية الغربية في عديد من مجالات النظام القانوني المصري، والتي استمدت من القوانين الإيطالية أساسا، مع بعض من القوانين الفرنسية، والتي وضعها المحامي السكندري من أصول إيطالية مانورى، ومن ثم ظل نظامنا القانوني يعتمد على المرجعية اللاتينية الأوروبية مع بعض التغيرات فى النصف الثاني من القرن العشرين.

هذه العمليات التاريخية السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية، كشفت عن تراجع العقل النقلي الاتباعي وجموده، وعدم قدرته على متابعة تغيرات عالمنا وتحولاته ومعها الدولة والمجتمع المصري. من هنا ظهرت محاولات التجديد في الفكر الدينى والإسلامي الوضعي التى اتخذت بعدا سياسيا مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ذي النزعة السلفية المحافظة وأستاذ حسن البنا، وعبد الرحمن الكواكبي المفكر البارز، إلا أن محاولة السعي للتجديد كانت على يد محمد عبده، وذلك بعد هزيمة الثورة العرابية، وعودته إلى البحث عن ضرورات التجديد، وركز على البعد الكلامي، ثم على الاجتهاد في قضايا الحياة والأفكار السائدة آنذاك، وكان أحد رواد التجديد.

من الشيق ملاحظة أن محمد عبده ركز على التجديد من داخل البني الفكرية والأصول الإسلامية، ومن ثم تمددت بعض اجتهاداته إلى بعض كبار مشايخ الأزهر الشريف، من مصطفى عبد الرازق، ومحمد مصطفى المراغي، إلى محمود شلتوت، وعبد المتعال الصعيدي، وعبد الحميد بخيت ومحمد عبد الله دراز، بل وبعض متمردي الأزهر كطه حسين، وعلى عبد الرازق، وامتد الأثر الفكري لمحمد عبده إلى مدرسة القضاء الشرعي، لا سيما أحمد أمين. هذه المجموعة الإسلامية من كبار علماء الأزهر والقضاء الشرعي، تأثرت أيضا بالحياة السياسية شبه الليبرالية والمجتمع المفتوح وثقافة المدينة الكوزموبوليتانية ووجود الجاليات الأجنبية، والحوارات الفكرية الخصبة التي مست جوانب الحياة الحديثة في المدن.
من ناحية أخرى الجسور المفتوحة ثقافيا وتعليميا نحو أوروبا، وحركة الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وبدء تشكل فكر فلسفي حديث من خلال الترجمات، والتأليف من بعض أساتذة الفلسفة، وعلم النفس، والدراسات الاجتماعية والأدبية الحديثة. من ناحية أخرى التطور في الفكر القانوني المصري الحديث، من خلال التعلم في فرنسا، والأطروحات العلمية المقارنة في كل فروع القانون العام والخاص، وقيام بعض أساتذة القانون بإجراء مقارنات مع نظام الشريعة الإسلامية. يمكن القول إن بعض أساتذة الشريعة ذوي الأصول الأزهرية ومدرسة القضاء الشرعي تأثروا بمناهج دراسة القوانين الوضعية وتأصيلاتها وتقسيماتها وفصولها ومباحثها وفروعها المتعددة. نستطيع القول إن هذا التفاعل بين أساتذة الشريعة وأساتذة القانون الحديث، أسس لمدرسة الشريعة فى كلية الحقوق جامعة فؤاد سابقا والقاهرة لاحقا.
استطاع هذا التفاعل الإيجابي على أيدى المشايخ على إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف وآخرين أن يدفع بعض الباحثين إلى الدراسات المقارنة بين الشريعة والقانون، بل قام الدكتور شفيق شحاتة بإعداد رسالة دكتوراه حول نظرية الالتزامات في الفقه الحنفي، ودرس في كلية الحقوق، ثم ذهب إلى باريس، وأصبح أحد أساتذة القانون بالسوربون جامعتنا العريقة. ومن الشيق أن مواطنا مصريا آخر هو أستاذنا الجليل البروفيسور سابا باشا حبشي المحامي والوزير المصري قبل 1952، والذي رشح بطريركا للأقباط الأرثوذكس ورفض، وكان أحد أبرز المحامين الكبار في مصر والمنطقة وأحد واضعي اتفاقيات أرامكو السعودية مع سامي فهمي المحامي الكبير، ذهب إلى الولايات المتحدة بعد التأميمات، وكان يدرس القانون الإسلامي فى جامعة كولومبيا. اثنان من كبار رجال الفقه من الأقباط، اشتهرا بتدريس الشريعة والقانون الإسلامي فى فرنسا وأمريكا.
من ناحية أخرى نستطيع القول إن بعض اجتهادات الإصلاحيين الأزهريين رفضت من داخل بعض المحافظين الغلاة داخل الأزهر الشريف، إلا أن هؤلاء فى اجتهاداتهم كانوا على صلة وثيقة ومعرفة ووعي عميقين بالموروث الفقهي والتفسيري للأصول الإسلامية، وبالتاريخ الإسلامي فى مراحله المختلفة، في عهود تألقه، ووهنه وبتاريخ المجتمعات الإسلامية والعربية.
نعم كانوا على وعي بالتحدي الاستعماري، وفورة الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، وبالتطورات الفكرية والفلسفية وفى مجال العلوم الاجتماعية، ومن هنا استجابوا للتحدي من خلال السعي إلى الاجتهاد وتقديم حلول لرفع الحرج عن الإنسان المسلم الحديث والمعاصر من بين بعض ما يعرفونه من الموروث التقليدي القديم من مذاهب ومدارس فقهية، وبين الأسئلة الجديدة التى طرحت على العقل الإسلامي والمصري آنذاك. كانت محاولات فى غالبها توليفية ببن القديم والمحدث، ونادرة هي المحاولات التجديدية الكبرى، ومع ذلك وجهت من بعض الغلاة بضراوة وقسوة.
الذي حمى هذه المحاولات هو الثقافة شبه الليبرالية، ودولة القانون وسيادته إزاء محاولات العسف بهؤلاء المجددين أو الإصلاحيين، واستمرت بعض فوائض المرحلة شبه الليبرالية مع نظام يوليو 1952، إلا أنها تراجعت بعد ذلك، بالنظر إلى توظيف النظام ونخبة الحكم للإسلام في السياسة والمواجهات مع جماعة الإخوان المسلمين، والتوظيف المفرط لتسييس الإسلام من أنور السادات في صراعاته السياسية مع الإرث الناصري، ومع قوى اليسار والناصريين، وتحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين، واستخدامه المفرط للأزهر في السياسة، على نحو أدى إلى تمدد جماعات الغلو الديني التأويلي، والتكفيري كجماعة المسلمين وحزب التحرير الإسلامي والقطبيين، والجماعة الإسلامية والجهاد، وتحالفه مع السعودية وامتدادات السلفية الوهابية إلى داخل البلاد ودعم دول النفط للأزهر، ولبعض الجماعات السلفية، وراح ضحية سياسته الدينية اغتيالا على أيدي تنظيم الجهاد الإسلامي.
استمرت سياسات المواجهة الأمنية والمناورات وإدماج الإخوان جزئيا في بعض بني النظام، واستخدام السلفيين فى ظل حكم حسنى مبارك، حتى تمددت هذه الجماعات وسط المجتمع وقواعده الاجتماعية، وداخل بعض أجهزة الدولة، من خلال التدين الريفي، وصولا إلى 25 يناير 2011 وما بعد، وانكشف غطاء المجتمع عن تراكمات من التطرف العنيف، والإرهاب الدامي، الذي نراه في الإقليم وداخل البلاد، لأن محاولات التجديد توقفت، وانطلق الغلو والعنف والإرهاب الفكري، والمادى الدموى.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف