الأهرام
د/ شوقى علام
نحو مجتمع آمن - مستقر مولد الرسول إحياء للحضارة
يُمثِّل مولد النبى صلى الله عليه وسلم ميلادًا جديدًا للإنسانية وانطلاقة رشيدة فى مسيرة البشرية نحو العمران والحضارة وفق الأوامر الإلهية والقيم السامية، حيث جاء على فترة من الأنبياء والرسل، مُرسيًا لقواعد العدل ومبادئ المساواة، ومبينًا للحقوق والواجبات بين الناس تجاه بعضهم بعضًا، وداعيًا الأمم إلى السلام والتعاون،ومخاطبًا للعقول والقلوب بالتحلى بحقيقة الرحمة وسمات الصلاح.

هذه المعالم هى سمات رسالته الخاتمة إجمالا، والتى لخصَّ صلى الله عليه وسلم جوهرها وحقيقتها فى كونها متممة لما لدى الإنسانية من فضائل وقيم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله بعثنى بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال”(المعجم الأوسط للطبراني)، وانطلاقًا من ذلك قدَّم النبى صلى الله عليه وسلم منهجًا محكمًا لحياة البشرية بصورة حقيقية شملت فى الواقع مختلف مقومات الإنسان ومجالاته.

إن ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم قد أذن بوجود نموذج معجز مثَّل النسق الأعلى فى الإحاطة بجوانب الحياة مع نزاهة التعاليم وعدل التشريعات ومراعاة أهلية المكلف فى سائر التكاليف، حتى بات مقياسًا دقيقًا توزن به المناهج والقوانين والإجراءات، فضلا عن اتفاق العقلاء على ضرورة الاستمداد منه لِما فيه من حيوية ومرونة.

لقد أقام النبى صلى الله عليه وسلم للناس أمر دنياهم على أبدع مثال، حيث جمع الأمة وفق الألفة والمودة ككتلة واحدة متزنة تحت إدارة منظمة تحوز السلطات، وجعل لها وثيقة عليا وتشريعات منضبطة ينبغى مراعاتها فى المعاملات والأخلاق سواء الفردية أو الجماعية، ووفر لها الموارد المالية والاقتصادية، ودافع عن هوية هذه الدولة وأمَّن مناطقها طرقًا وحدودًا، وواجه أعداءها ومن يسعى لتفريق وحدتها، وعقد المعاهدات والتحالفات مع الآخرين حتى المعاندين المحاربين متى جنحوا إلى الصلح والسلام.

كما اهتم ببناء المجتمعات الجديدة مع رسم خطتها وفق ما تقتضيه المدنيَّة والحضارة، وتصدى لتحقيق العدل والمساواة بين أفراد الأمة، ورسَّخ أسس الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية، ونشر العلم والتعليم وأساليب المدنية المتاحة، ومن ثَمّ جاء مسلكه فى كل ذلك حكيمًا أدى إلى استقرار المجتمعات الإنسانية وحافظ عليها من الهزات الاجتماعية العنيفة والطفرات السياسية العاصفة.

وبذلك جنت البشرية من ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم فضلا من الله عظيمًا، لحصول نعمة الإيجاد فى هذا اليوم، التى هى سبب ومظهر لحصول كل خير تغتنمه البشرية فى الدنيا والآخرة، خاصة هذا النموذج للحياة المتكامل المؤسس تأسيسًا عبقريًّا، والذى أشاد به المخالف قبل المتبع، مما يقتضى بذل الشكر لله ولرسوله نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم بإظهار السرور والفرح بذكرى المولد العطرة بشتى المظاهر والأساليب المشروعة، تحقيقا لقوله تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”[يونس: 58].

ولا يقتصر أمر الشكر على مجرد إظهار الفرح والسرور وحَسْب، بل إن الشكر الحقيقى يقتضى أن يصاحب ذلك أن تستدعى مظاهره الجليلة فى ذكرى المولد النبوى العطرة حتى يمثل نقطة انطلاق قوية فى تجارب البشرية لتحقيق الرفاهية والسعادة والتعامل الحكيم مع الواقع ومقتضيات العصر، وذلك من خلال الاتصال بهذا الإنسان الكامل، والتمسك بشريعته التى توجب تثبيت دعائم الدولة فى بلادهم، خاصة فى ظل هذه الفتن والظروف الصعبة التى تعصف بهم من كل جانب، تحقيقًا للبناء المتماسك بين أبناء الأمة.ومما سبق، فإن ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم من تجليات الرحمة الإلهية على الخلق كافة لما حصل فيه من نعمة إيجاد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذى تمم للبشرية مكارم الأخلاق وقدَّم لها الإسلام كمنهج حياة شامل يؤسس لضرورة الأخذ بسمات المدنية، ويحث على التحلى بمظاهر التحضر والاستقرار ودعم قيام الدولة وفق الثابت والمتغير حتى يقوم الناس بالقسط، امتثالًا لقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:25].
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف