الدستور
ماجد حبته
انتحار حمار!
اختفى «حسن مفتي» منذ ٢٤ سبتمبر الماضي، بعد أن نصحنا، أو نصح نفسه، بـ«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكانت تلك هي آخر تغريدة كتبها في حسابه على «تويتر». ولا أعرف إن كان قد اختفى باختياره، أم ألقت السلطات السعودية القبض عليه للمرة الثالثة!.

حسن مفتي هو مؤلف المجموعة القصصية «انتحار حمار»، التي صدرت طبعتها الأولى سنة ٢٠٠٧، لتنهي حياة «الخفاش الأسود» بعد ٧ سنوات، ظل المذكور يكتب خلالها في المنتديات والساحات الإلكترونية تحت أسماء مستعارة: «مدعي عام المحكمة»، «قنّاص الصحراء»، «الجبة والعمامة»، «أنيس هتشكوك»، ثم استقر بعدها على استخدام اسم «الخفاش الأسود»، وهو الاسم الذي اختاره تحديًا لاتجاه سائد كان يميل إلى استخدام الأسماء الرومانسية!.

صورة الغلاف التي تم تداولها، أمس، على شبكات التواصل الاجتماعي، لها قصة طريفة حكاها «مفتي» في المقدمة: «كان لا بد لصورة الغلاف أن تطابق مضمون العنوان، فسبرت أغوار الكتب والمجلات، وولجت إلى أعماق دهاليز الشبكة لأبحث عن صورة تقارب أو تطابق النية السيئة للانتحار فلم أوفق، اقترح عليّ زيد من الناس أن أستعين بحمار حقيقي لتصوير مشهد مقارب للانتحار، لكنني خشيت عاقبة فعلي، وخشيت أن يركب الحمار موجة الانتحار فيتردى على أم رأسه، وأتعرض أنا للمساءلة القانونية من قبل جمعيات الرفق بالحيوان، وما أكثرها». وبعد البحث المضني، استعان ببعض زملائه، وعثر أحدهم على الصورة المنشودة، التي يقف بطلها على شفا جرف هارٍ!.

المنتحر، بطل القصة، التي يحمل الغلاف عنوانها، حمار أبيض كان يلوك بتكاسل برسيمًا أخصر مائلًا إلى السفرة، بينما كان رفيق دربه الحمار الأسود مشغولًا بحك ظهره إلى حائط الغرفة بقوة وهو منزعج للغاية، مبديًا تبرمه الشديد من التعب والإرهاق من عمل النهار. وبعد حوار عبثي «لا لزوم له» بين الحمارين، نعرف أن الحمار الأسود اتخذ قرارًا مصيريًا بالهجرة إلى الخارج، أوروبا أو أمريكا، وفي أسوأ الاحتمالات إلى أستراليا.

يتجاهل الحمار نصيحة زميله بأن «من خرج من داره قل مقداره»، ويمتطي ظهر سفينة أخشاب متجهة إلى أستراليا، وبوصول الباخرة إلى ميناء ميلبورن يتجه الحمار الأسود إلى موظف الجوازات ويصيح بأعلى صوته: «إنني أطلب حق اللجوء السياسي، فأنا مضطهد في بلدي». فيتم اقتياده إلى المركز الخاص بطالبي اللجوء السياسي. وفي اليوم التالي اقتيد إلى مركز التحقيق الخاص بطالب اللجوء السياسي، وتم إدخاله إلى الضابط المختص بدراسة طلبات الهجرة واللجوء، سحب كرسيًا وجلس عليه واضعًا قدمًا على قدم.

ينتهي التحقيق برفض طلب الحمار، فيتسلل إلى سطح مبنى مركز الاحتجاز، ثم يخترق الشرفة ويقف عليها ويبدأ بالنهيق. وبعد أن يتجمع حراس المركز أسفل المبنى، يدور حوار عبثي «لا لزوم له» أيضًا، ويهدد الحمار بأنه سوف ينتحر، إذا لم تتم الموافقة على طلبه، وأثناء تحركه المضطرب، يختل توازنه ويفقد السيطرة على نفسه تمامًا، وتزل به القدم ويهوي من شاهق، فكان الارتطام المروع «كجلمود صخر حطه السيل من عل». وفي اليوم التالي تنشر جريدة مغمورة في صفحتها الأخيرة خبر انتحار حمار مهاجر، عانى من أمراض نفسية بفعل العقد الجنسية الخطيرة التي تراكمت في ذهنه، نتيجة لإدمانه على القراءات غير المنضبطة لأدب الفراش ومتابعاته المستمرة لمواقع الصفحات الإباحية، في أحد مراكز اللجوء السياسي!.

قصة حسن مفتي نفسه، أكثر طرافة من قصة حماره المنتحر. كان إمام أحد مساجد شمال العاصمة السعودية الرياض، وواحدًا من أشهر السعوديين على المنتديات الإلكترونية، ثم قرر اعتزال الكتابة في الظلام، أو بأسماء مستعارة، وأعلن القرار في حوار أجراه معه مصطفى الأنصاري ونشرته الطبعة السعودية من جريدة الحياة اللندنية في ٣ أبريل ٢٠٠٧، قال فيه إن المنتديات والساحات الإلكترونية سلبت منه وقتًا وتفكيرًا بلا ثمن، وإنه على مدار سبعة أعوام كان يصحو وينام على هاجسها، والنتيجة كانت الكثير من الخسائر بلا فوائد تساوي ما تعرض له من معاناة وسلبت منه «الكثير والكثير من الوقت والاستقرار العائلي».

من حواره مع جريدة «الحياة» السعودية، نعرف أن له تجربة في أفغانستان نهاية تسعينيات القرن الماضي، قال إنها تسببت في اهتزاز «الصورة المثالية» التي كان يرى عليها ما وصفه بـ«الجهاد»، وأضاف أنه نذر وقته لتوعية الناس في مساجد الرياض بالصورة الجديدة «السلبية»، بينما كانت «كل المنابر» تعدد كرامات رجاله، مع إصرار مشايخ سعوديين في ذلك الوقت على إبقاء صورة «الجهاد الأفغاني» نقية في نفوس الجماهير، التي كانت تتبرع بالبلايين. وبعد تأكيده على أن ما وصفه بـ«الجهاد» قائم على «مصالح شخصية وأهواء حزبية»، قال إن فكرة خروجه للجهاد مرة أخرى لا تراوده بتاتًا، لأنه يعتقد «أن العمل الخيري أو الدعوي، أو الجهادي غير محصور في القتال، فهو عمل واسع المجالات في الدين»!.

..ولا تبقى غير الإشارة إلى أن المذكور تم احتجازه لمدة ١٧ يومًا في ٢٠٠٤، حكي ذكرياته عنها في كتاب عنوانه «ثم اعتُقلْت»، لكنه لم يكتب شيئًا عن تجربة احتجازه في ٢٠١٤ لخمسة أيام فقط لا غير. وأخشى أن يكون احتجازه، مرة ثالثة، هو سبب اختفائه، منذ ٢٤ سبتمبر الماضي. وكنت أردت أن ألفت نظره إلى أن تداول غلاف مجموعته القصصية، أمس، على شبكات التواصل الاجتماعي، لا يعود إلى نجاحها أو ينفي سخافتها، بل يعود فقط إلى انتحار حمار آخر، غير حماره الأسود!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف