محمد صابرين
حوارات فى كوريا.. «صورة مصر» فى ظل الإرهاب
قال لى : ولكن هل لديكم رئيس سابق على قيد الحياة، وليس مدانا أو متورطا..كان هذا السؤال فى نهاية أحد الحوارات الطويلة لى حتى الأمس فى رحلتى إلى كوريا الجنوبية. ولم يكن الصحفى والكاتب الكورى الكبير لديه معرفة دقيقة بسنوات الانتقال والاضطرابات فى مرحلة ما بعد مبارك، ومرحلة ما بعد إزاحة الإخوان من الحكم. ولكن سرعان ماقلت له: بلى لدينا رئيس سابق أدى دورا مهما فى تاريخ مصر، وهو المستشار الجليل عدلى منصور. وشرحت له ما الذى قام به رئيس المحكمة الدستورية وكيف أنه رفض أن يمدد «حضوره السياسي» بعد مهمته الدقيقة. والسر وراء هذا الحوار أننى قلت لنائب رئيس مدير عام التخطيط والشئون الاستراتيجية بجريدة «تشوسن اليبو» الأوسع انتشارا فى كوريا: لماذا لم تدع شخصية مصرية إلى مؤتمر القيادة الآسيوية؟؟ والحقيقة أن هذا المؤتمر فرصة لدعوة شخصية مهمة غادرت السلطة لتعطى تجربتها، ولقد تحمس السيد تشوى يوجيون الذى يحمل ذكريات جميلة عن مصر والبحرين نظرا لأن والده دبلوماسي، خدم فى البلدين. بالطبع تشعب بنا الحوار، وقال لى إنه حزين لوقوع الحادث الإرهابى فى سيناء، وعندما سألته:
هل هناك اهتمام كبير من قبل الرأى العام بما يحدث فى مصر والعالم العربي. قال بصراحة: للأسف لا، فهو سوف يبدى بعض التعاطف والأسى مع الضحايا ثم يمضى فى طريقه. وأضاف الرجل بصدق: للأسف الأجيال الكبيرة التى عملت فى الخليج والعالم العربى فى السبعينيات والثمانينيات هى فى طريقها للرحيل والاختفاء من المسرح. وهنا قلت له: ترى هل ضاعت منا هذه الفرصة، فقال: للأسف نعم، فالأجيال الجديدة لا تعرف الكثير عن مصر والعالم العربى وأحسب أن هذه الحكاية مدخل لموضوع كتبت عنه كثيرا، وأعتقد أنه يطارد الكثيرين غيرى ألا وهو غياب الصورة الدقيقة لمصر والآن جاء الإرهاب ليلقى بظلاله على «صورة مصر» وهذا ما يتطلب منا جهدا مضاعفا للكشف عن وجه مصر الحقيقي؟
وأحسب أن الكثيرين فى مصر لا يزالون أسرى «الواقع المأساوي» لما يحدث من حرائق وإرهاب فى العالم العربي، لكنه على الرغم من «مأساوية» ما حدث ويحدث فإن العالم يتحرك. وكوريا ليست استثناء من «العالم الذى يتحرك»، والذى لا يتوقف مشلولا أمام الوقائع المأساوية، بل يبحث كيف يمكن «تحويل الأزمة إلى فرصة». ومن ثم فإن كوريا مثل روسيا وفرنسا والصين وتركيا وإيران تبحث عن حصتها فى «كعكة إعادة الإعمار» سواء فى سوريا أو العراق. ولقد كان الأمر حاضرا بقوة فى منتدى التعاون الكوري الشرق أوسطى فى دورته الرابعة عشرة، ولقد جاء رجالات ونساء الدولة الأردنية بقوة ليعرضوا «الشراكة». وأحسب أن الجانب الأردنى كان ذكيا بما يكفى لالتقاط «الخيط الرمادي» الخاص بما بعد «المأساة»، وهنا حتى ندرك فإن كعكة إعادة إعمار سوريا وحدها تتراوح التقديرات بين 800 مليون دولار وتريليونى دولار. إذن نحن هنا أمام «عمليات واسعة» من بناء مدن، وخط أنابيب، ومصافى تكرير، وبناء مصانع، وشبكات كهرباء. هذه عينة بسيطة مما سوف ننشغل به بعد فترة ربما لا تكون بعيدة جدا، وربما قد ينشغل البعض فى مصر بعملية إطفاء الحرائق، واستعادة الدولة السورية القوية، ووحدة أراضيها.
وهذا بالطبع مهم ونبيل وحيوى للأمن القومى المصرى والعربي، ولكن الأطراف الأخرى بدأت توقيع العقود، وهندسة شكل العلاقة المقبلة مع دمشق، وربما نرى قريبا تركيا أردوغان تستدير دورة كاملة لمقابلة نظام الأسد، بل فى بعض الحوارات الجانبية هنا يتردد أن «فاروق الشرع» ربما يكون له دور فى القادم فى سوريا. وأحسب أن ما أرغب فى توضيحه هنا هو أن مصر لابد أن تهتم «باليوم التالي» من الآن، ونحن مثل الآخرين وربما قبلهم عملنا من أجل وحدة أراضى سوريا وسلامتها، ولنا مصالح حيوية تتجاوز «اعتبارات الأمن» فقط، ومحاربة الإرهاب فقط. بل لدينا مصالح حيوية فى عملية إعادة البناء، ونحن أيضا «شريك موثوق» يمكن الاعتماد عليه، ويمكن لنا أن «نشارك» مع كوريا ليس فقط فى سوريا والعراق بل ليبيا أيضا.
ولا تتوقف الحوارات الجانبية فى كوريا هنا فقط بل تمتد إلى حوار آخر مع طارق شنيطى نائب الممثل المقيم لمفوضى الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فى سول، وهذا المكتب مخصص لمعالجة أوضاع حقوق الإنسان فى كوريا الشمالية. ومن خلال الحوار أشار الدبلوماسى الأممى إلى أن مصر لديها علاقات مع كوريا الشمالية، وربما يمكنها المساعدة فى عملية التواصل مع النظام الكورى الشمالي. وأحسب أن هذه «فرصة أخري» لمصر أن تبرز حضورها، وتصل إلى الشعب الكورى الجنوبي، وذلك لو نجحت فى أن تتولى فقط مسألة «لم شمل العائلات» واستئناف عملية «التواصل الهاتفي». وأحسب أن «مجرد المحاولة» سوف تقدم «صورة متحضرة» لمصر، التى تحاول أن تخفف من مآسى الآخرين، وتصل مباشرة إلى القلوب. ومثلما شهدت مصر ميلاد دولة كوريا الحديثة فى فندق ميناهاوس منذ أكثر من سبعة عقود، فإنها الآن يمكنها أن تسهم مرة أخرى فى «قضية حيوية» للعالم. وبدلا من أن تتم مهاجمة مصر فإن القاهرة ستحول «علاقتها مع كوريا الشمالية» إلى «ورقة إيجابية» فى يد المجتمع الدولى لتخفيف «معاناة شعب» ونزع فتيل «أزمة معقدة».
ـ . ـ وأحسب أن الحوارات لا تكتمل إلا بحالة الشكوى المرة من الإعلام المصري، وهذه المرة كانت من المشاركين العرب، ومن الإعلاميين العرب. وخلاصة الشكوى أن الإعلام المصرى بتجاوزاته وعدم مهنيته لا يتوقف «الضرر» الذى يلحقه بعلاقات مصر الرسمية مع الدول العربية بل الإفريقية فقط، ولكن هؤلاء ومن بينهم شخصيات محبة لمصر تحذر من أن الإعلام المصرى تجاوز، وبات ضرره يضرب علاقات مصر مع الشعوب. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى مراجعة، وإلى دراسة أمينة فلم يعد يجدى بأن هذه الأسماء التى تتكرر منها الشكوى لا تمثل الإعلام المصرى كله. وبصراحة فإن «العلة» التى تضرب بخفة وعدم مهنية لا تدرك مدى الضرر الذى يبقى فى ذاكرة الشعوب، وهنا فإن «القفشات» فى الأفلام القديمة تركت ـ ولا تزال ـ جروحا فى مشاعر السودانيين، ويتم العقاب القاسى من قبلهم. ويبقى أن «صورة مصر» لم يعد من الممكن تجاهلها، لأنها «المدخل الحقيقي» لمصالح مصر وأمنها. وأحسب أن الأمر بات يتطلب «عناية أكبر»، ودراسة عميقة، وأصواتا عدة تساعد الرئيس السيسى فى توضيح الأمور. وهنا ربما حديث الرئيس عدلى منصور فى كوريا سيكون «بداية جيدة».