محمد السعدنى
في الفكر والسياسة - سيرك تحت وهج الشمس
»لمثل هذا يذوب القلب من كمد» هكذا قالها أبو البقاء الرندي شاعر الأندلس، حين راح يرثي سقوط الأندلس وأشبيلية منذ قرابة ثمانية قرون، قالها بكل ما في قلبه من أسي علي ما آلت إليه أحوالنا، وأقولها اليوم لما أراه من أحوالنا، لكأننا في سيرك نصب في ميدان عام يقطعه المشاءون من كل اتجاه، وما بين الرائح والغادي والبائع والشاري والفاعل والمفعول والناصب والمنصوب اختلط الجميع في السيرك المنصوب، فرحت لا تعلم أيهم الفالح وأيهم المعطوب. هي ليست لوحة سيريالية من متحف الفن الحديث، بقدر ما هي صورة لوطن في مفترق الطرق تتناوشه الأحداث الجسام فإذا بنخبته المغيبة تمشي نياماً في وسع الطريق. وحتي تصدق شاهد في أمسية واحدة بعض فضائياتنا لتري كيف ضاع العقل منها وتوارت الحكمة خجلاً وذهبت المسئولية غير مأسوف عليها في إعلامنا الفضيحة الذي ضربه جيل من بارونات الإعلام المنتفخة أوداجها علي خواء مقيم لا يبرح عقولهم الفارغة حتي يصيب الناس في بلادنا بالإحباط والأسي واليأس، يصرخون فينا ليل نهار ويحملون الناس كل أفاعيل داحس والغبراء وسقوط أشبيلية وألاعيب إثيوبيا وسد النهضة ومؤامرات النجم الساطع والتحالف الدولي الذي راح ينقل إرهابيي داعش لملاذات آمنة هم وأسرهم بدلاً من توقيفهم ومحاكمتهم. شغلوا أنفسهم وشاغلوا الناس بصغائر الأمور حتي غاب عنهم كبارها، ووقعنا بين بين. وبدلاً أن يمارسوا دورهم في الإخبار والإرشاد والحشد والتغيير، راحوا يلوكون لنا حواديت أمنا الغولة والشاطر حسن والشاطر شفيق ونصبوا السامر علي لا شيء إلا توافه الأمور فصارت بلادنا بفعل غبائهم سيركاً وضحكاً كالبكاء.
ورغم كل مشاكلنا وقضايانا الحالة والطارئة في التنمية والأزمة الاقتصادية التي تمسك برقابنا والإرهاب الدولي يترصد بلادنا بينما الغرب يمنع عنا أسلحة في الكشف والإنذار المبكر ومعدات تحتاجها معركتنا في حرب عصابات الإرهاب، ومغامرات ترامب وشطحاته وعزمه نقل السفارة الأمريكية للقدس أو حتي مرحلياً الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل التي تلاعبنا بدعم الإرهاب في سيناء وأياديها ملطخة بدماء جنودنا وأبنائنا في عمليات نوعية لعصابات الإرهاب تبدو فيها مخططات استخباراتية ودعم عسكري ولوجيستي لا تقدر عليه هذه العصابات دون مساعدة دول كبري ونافذة في الإقليم والعالم. هذا كله لا تناقشه فضائياتنا مفارقة العقل والسياسة والمسئولية ولا أقول الحكمة. تصوروا أن ذلك يخدم الوطن بينما الحقيقة أنه خصم من رصيدنا الحضاري وإساءة للدولة التي أظهروها هشة، وقد عبر وزير الخارجية حين سألوه في منتدي الحوار المتوسطي، في العاصمة الإيطالية روما، ، إنه من حق أي مواطن الترشح إذا لم يكن هناك ما يمنع. هكذا هو التصريح المسئول والقوي لدولة بحجم مصر.
وحين صوتت 151 دولة في الجمعية العامة في نيويورك الخميس الماضي بأنه لا صلة للقدس بإسرائيل، مقابل تسع دول ممتنعة وست داعمة، لم نر أحد من بلياتشو إعلامنا غير الرشيد يناقش ذلك علي أهميته في أي من فضائياتنا، رغم صدور قرار أممي بعد التصويت بأن أي خطوات تتخذها إسرائيل كقوة احتلال لفرض قوانينها وولايتها القضائية وإدارتها في مدينة القدس غير مشروعة وتعتبر لاغية وباطلة ولا شرعية لها، داعيا السلطات الإسرائيلية إلي احترام الوضع القائم تاريخيا في المدينة قولا وفعلا، وخاصة في الحرم القدسي الشريف. أما كان الأولي أن نناقش ذلك ونبني عليه خصوصاً في سياق ما يتردد عن صفقة القرن. ألم يكن الاتفاق العسكري المصري الروسي أهم من تجاهله رغم خطورته الاستراتيجية والرسائل الراشحة عنه بما يفيد أننا علي أعتاب واقع جديد في المنطقة. عار علي إعلامنا ألا يفعل بينما الدولة مشغولة بما هو مهم وإعلامنا مشغول بالسيرك الردئ المنصوب غباءً تحت وهج الشمس.