قالها الرجل من أكثر من 1000 عام.. وظللنا نرددها حتي اليوم ومع ذلك نجد من يقلل من شأن الكلمة وتأثيرها. القائل هو الشاعر أبوفراس الحمداني وبيته محفوظ منه شطره الثاني "ومن مذهبي حب الديار لأهلها.. وللناس فيما يعشقون مذاهب".
لي في الطعام عشق خاص.. وقد أكلت علي مائدة أشهر طباخ في العالم اشتراه بيت أزياء كرستيان ديور من البيت الأبيض.. لكن بقي لي حبي الأول.. طبق من جبن قديم مرشوش بألوان زاهية من خيرات الله.. أحمر الطماطم البضة كأنثي تنتفخ تيها.. وتظل تمنح وتزيد.. وحين تقضمها يأتيك تفجير عصير.. وبذور توحي بأن الثمرة ستأتي من جديد.
وأخضر حبات الفلفل ولك منها متعة الخضوع لآخر مدي.. وصولا لقشرة مرنة لا تمانع مهما ضغطتها.. طبقي الشهي بمذاقه وذكرياته انه "مش" خرج من "بلاص" فلاحة خمرية.. ومر برحلة طويلة وصولا للمدينة.. مثله خرجت من أرض تنبت طيبة وسماحة أحب قريتي وشجرتي وخصب سواد الطين.
عدت إليها فوجدت بيوتا زرعوها مكان الشجر.. وأزالوا مكانا فسيحا كنا نستقبل فيه القريب والغريب ونسميه "المضيفة" بفتح الميم.. راحت المضيفة وبقي القريب قريبا.. واجتثوا الزرع وبقيت النبتة الطيبة.. انزلق من اصبعي خاتما من الماس وفي اليد الاصبع.. القرط ضاع.. العقد انفرط.. الحرير بلي وعندي الأذن والجيد والقد.
بواقي.. عمر
في عالم الأشياء البواقي أقل من كامل المعروض وفي دنيا البشر الباقي.. الأروع بعد أن اختلط بمقادير وخبرات وحكايات.. خلطات من انفاس واحاسيس وعطاءات.. اندفاعات وترنح وسقطات ودموع وآهات.. وتحلل وتبخر.. وترفع وإلقاء بأحمال والوصول لإجابة السؤال.. لماذا حملناها وسعينا لنبقيها علي الظهر حتي انقسم.
وكلما تقدم بنا العمر عشنا الفقد.. يرحلون من حولنا.. ولا ندرك الوجود سوي بالاقتراب من العدم.. ولا نعرف العافية إلا عندما "نحط".
ونتذكر كتابا حفظنا في المدرسة أول درس فيه ومعه صور "لشرشر نط وفلفل حط".. وليس لنا غير الاستمتاع بهذا الركون.. الكمون.
تحولت الفرحة بدعوة إلي حفل وثوب جديد وابهار أضواء ورقصة صاخبة.. إلي انسجام مع مقعد بعينه في ركن بذاته من البيت.. وموسيقي فيروزية تنساب للأعماق.. وشاشة لا يجذبنا منها إلا ضوء يغمر الغرفة وقليل من أشكال تتحرك لتضيف للسكون متعة حركة الآخر.
شاي باللبن
وفنجان شاي مخلوط بصفاء اللبن وبياض سريرته تحوله للون تخلقه بنفسك ومع كل قطرة بيضاء ينفتح اللون الغامق لنتوقف أنا وانت عند الدرجة التي يرتاح إليها كل منا.. انها الإرادة تسكبها وتشربها وبيدك تكتب ما نويت أن ترتشف.
وتتحول روعة اللقاء إلي متعة تقليب صفحات ألبوم صور.. لكل منها حكاية كانت.. الضنا في الحضن وملء العين.. شب وكبر وابتعد.. ويأتي صوت أولادنا علي الهاتف مختلفا شيئا ما عما يكون وهم بجانبنا.. ونمد بصرنا كزرقاء يمامة نتخيل رؤيتهم.. ونكتفي باحساسنا انهم سعداء أو يحاولون.. والباقي من وجودهم حولنا حين نخرجه بسعادتهم.. يرضينا.
انها مرحلة من الرضا.. لم يعد هناك ما يزعج.. كأميرة مبتسمة سرت تحت كل الظروف. يحتك المار بسيارتي فيخدشها فأجد له عذرا.. يغالطني البائع في الحساب فأتمتم غلبان. تسرقني الشغالة والحكم.. محتاجة.
وتبقي البقايا بطعم الروعة.. رحلت صديقتي التي كانت تعد لي طبقي المفضل وبقيت شهيتي.. مات الحبيب وعندي قلب.. خلصت الحكاية ولي ذكريات.. سافر الوطن وترابه في جيبي المسحور.
بقايا فنجان شربناه وتبقي منه السكر علي حاله.. اتمرغ في حلاوته.. فلم تتقن تقليبه ملعقة.