التحرير
د. مجدي العفيفي
العدسة الوحيدة التي صوّرت سيدنا محمدا (2 - 2)
السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله وبركاته وتحياته وتجلياته..
السلام عليك يا من ناداك ربك، واصطفاك، وناجاك، وأدناك فكنت قاب قوسين أو أدنى.
السلام عليك يا من خاطبك ربك وحدك بصيغة (يا أيها النبي) فكل من دونك محب وأنت حبيب الله..
أصلي عليك وأصلك في كل طرفة عين.. وفي كل رعشة طرف.. وفي كل ذبذبة نفس.. وقد علمتنا كيف (نهجر) لـ(نهاجر)، وكيف نفكر ونمنهج حركة حياتنا فلا خوف علينا ولا نحن نحزن، أو يفترض ذلك، إذا أقمنا المنهج وتوسمنا المنهاج، بلغة زماننا ومكاننا وإنسانيتنا.

وأسلم لك تسليم إدراك طاعة متصلة وطاعة منفصلة.. وأنت الذي حوّلت المطلق إلى نسبي ضمن حدود الله، وهذا هو جوهر سنتك في الزمان والمكان والإنسان يا من أعدت انسجام الإنسان مع الوجود كله، بمن فيه وما فيه!

أصلي عليك يا سيدي صلاة محب، بالفؤاد والقلب والعقل والروح والنفس المطمئنة والراضية والمرضية والأمارة بالخير واللوامة والزكية وما دون ذلك، صلاة ينفطر لها التكوين القابض على جمر دينه، مستمسكا ومتشبثا بعروة أهداب حروف اسمك ورسمك وسمتك وصوتك وصمتك وكلك.
أصلي عليك يا سيدي بكل جوارحي وملامحي.. وشواهدي ومشاهدي.. ومعالمي وملامحي.. وقواعدي وقوائمي.. وظواهري وبواطني.. تسليم إنسان ليس فقط مجرد كائن مسلم مؤمن، بل إنسان عالمي ومواطن عالمي، يعيش في قلب القرن الخامس عشر الهجري، ويقف على مشارف القرن الحادي والعشرين الميلادي: يحدق ويحلق، وينظر ويناظر، بمعطيات عصره، وعطاءات أصله، فيشهد هاتفًا بعمق وحق: أنك أنت أنت سيدنا محمد الإنسان النبي الرسول، الذي أعاد ولا يزال يعيد انسجام الإنسان مع الوجود كله.

السلام لك وعليك يا سيدي يا من جئتنا من أنفسنا، عزيز عليك ما عنتنا.. حريص علينا، وبنا رؤوف رحيم.. وللعالمين أجمعين رحمة.. ألست أنت رحمة رب العالمين للعالمين، ورسالتك هي العالمية (برؤيتها الإنسانية) والعولمة (بمفهومها الكوني البريء)، والعلمانية (بشرطية العلم والدين) والحداثة والمعاصرة (كرموز للتحولات الجوهرية في تاريخ البشرية)، وهل يعقل آيات الله إلا العالمون؟

*** تتوالى المشاهد من العدسة الوحيدة التي سجلت التشكيلات الجمالية لصورة سيدنا محمد صلي الله عليه وملائكته، وقد شاهدناها في المقال السابق عبر سؤال سيدنا الحسن وسيدنا الحسين رضي الله عنهما إلى خالهما هند، وهو يصف سمات سيدنا مشاهدة عينية، وهنا نشاهد الملامح الأخلاقية التي تتناغم مع القسمات الخلقية على لسان الإمام علي رضي الله عنه. ونستعين بملكة العدسة اللغوية للشيخ الشعراوي.
اللقطات مديدة وعديدة لمجلسه ولأدبه، وهو الذي‮ ‬وصفه ربه جل شأنه‮ {‬وإنك لعلى خلق عظيم‮}‬،‮ ‬والرواية هنا لسيدنا الحسين عندما سأل أباه سيدنا علي‮‬‮:‬ يقول الحسين أيضًا في‮ ‬روايته عن أبيه إن رسول الله كان دائم البشر‮.. ‬لين الجانب‮.. ‬سهل الخلق، ‬وهذه هي‮ ‬الصفات العامة‮.. ‬وبعد ذلك قال‮: (يتغافل عما‮ ‬يشتهي‮) ‬يعنيان حدث شيء أمامه، وهو لا يشتهيه‮ ‬يتغافل عنه، وكأنه لم‮ ‬يره‮.. ‬لأنه ‬يقدر نوازع النفس البشرية‮.. ‬فلا‮ ‬يحب أن‮ ‬يخجل صاحب الشيء بأنه رأى منه‮.. (‬يتغافل عما لا يشتهي‮ ‬ولا‮ ‬يقبس منه‮. ‬قد ترك نفسه من ثلاث‮: ‬من الرياء ومن الإكثار ومما لا يعنيه‮..‬ وترك الناس من ثلاث لا يضر أحدًا ولا يعيره ولا‮ ‬يطلب عورته‮.. ‬لا يتكلم إلا بما‮ ‬يرجو ثوابه‮، ‬يعني‮ ‬لا فضول عنده‮.. إن كان في‮ ‬هذه الكلمة ثواب تكلم بها‮.. ‬وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنّ على رؤوسهم الطير (‬فإذا سكت تكلموا‮) ‬هذا أدبهم مع حديثه‮).. ‬
ويتكلم بعد ذلك عن أدبهم، عند حديث إخوانهم فيقول‮: (‬حديثهم حديث أولهم‮) ‬يعني‮ ‬بالدور‮.. ‬ولا أحد‮ ‬يقاطع المتكلم‮.. (‬فإذا تكلم عندهم إنسان لا‮ ‬يقطعون عليه كلامه حتى‮ ‬يفرغ‮ ‬فإذا فرغ‮ ‬تكلموا‮)، ‬وبعد ذلك لا‮ ‬يتعالى عليهم رسول الله، ويبين لهم مكانته العظيمة‮.. (‬يعجب مما‮ ‬يعجبون منه‮.. ‬ويضحك مما‮ ‬يضحكون منه‮.. ‬ويصير للغريب على الجفوة في‮ ‬المنطق‮)، ‬يعني‮ ‬واحد لا‮ ‬يعرف قدره، وبعد ذلك اشتد في‮ ‬منطقه كان‮ ‬يتلطف معه ويصبر عليه‮.‬
وبعد ذلك‮ ‬يقول الحسين: (‬وكان لا‮ ‬يقبل الثناء إلا من مكافئ)، ‬يعني‮ ‬الذين‮ ‬يتطوعون بالمديح لا يقبل منهم‮.. أيما كلمة ثناء فقال ردًا على موقف‮: (جوزيت خيرا‮) ‬لأنه صنع كذا وتقبله‮.. (‬لا يقبل التطوع بالثناء ويقبله من مكافئ‮)، ‬يعني‮ ‬من مكافئ على جميل قدمه رسول الله‮.. ‬وبعد ذلك‮ ‬يقول‮ (وكان لا يقطع على أحد حديثه حتى‮ ‬يجوزه هو فيقطعه بانتهاء أو بقيام‮)، ‬وهنا انتهى الحديث‮.. إلا أن حديث وكيع بن أبي‮ ‬سفيان زاد شيئًا‮.. أنه سأل عن سكوته فقال‮: (‬جمع له السكوت في‮ أربع‮: ‬في‮ ‬الحلم والحذر والتقدير والتفكير‮)، أما التقدي‮ر ف‬ـكما قلنا سابقا، في‮ ‬تسويته النظر والاستماع بين جلسائه‮.. ‬وأما التفكير ففيما‮ ‬يبقى‮ ‬وفيما‮ ‬يفنى‮.. (‬وجمع الحلم في‮ ‬الصبر ـ فكأنه لا‮ ‬يغضبه شيء ‬يستفزه لذاته، وجمع له في‮ ‬الحذر أربع‮: ‬أخذه بالحسن ليقتدي‮ ‬به،‮ ‬وتركه القبيح لينهي‮ ‬عنه،‮ ‬واجتهاد الرأي‮ ‬في‮ ‬إصلاح الأمة،‮ ‬والقيام لأمته بما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة‮).
وبعد ذلك حينما‮ ‬يتكلم عن المجلس‮ ‬يقول‮: (‬لا‮ ‬يوطن الأماكن وينهي‮ ‬عن إيطانها‮)، ‬يعني‮ ‬ليس لأحد مكان مخصوص‮.. ‬بحيث إذا أتى لا بد أن‮ ‬يجلس فيها‮.. (‬فكان إذا انتهى إلى قوم جلس حيث‮ ‬ينتهي‮ ‬به المجلس‮)، ‬فإذا كان الرسول إذا ذهب إلى قوم جلس، حيث‮ ‬ينتهي‮ ‬به المجلس‮.. ‬يكون قدوة لكي‮ ‬لا‮ ‬يكون لأحد مكان خاص‮.. ‬بحيث‮ ‬يحفظ له‮.. إن كان‮ ‬غائبًا‮.. أو‮ ‬يقوم‮ ‬غيره عنه إن أقبل عليه‮.. (‬يعطي‮ ‬كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب أحد أن أحدًا أكرم عليه منه‮)، ‬تلك هي‮ ‬عدالة الرعاية‮.. ‬لا ينصرف بحديثه ولا بعينه ولا بأذنه إلى واحد دون الآخر‮.. ‬بل‮ ‬يوزع هذه الحظوة على الجميع بالتسوية‮..‬ لماذا؟‮..‬ لأنه إذا ما اتجه إلى إنسان ولم‮ ‬يتجه إلى آخر‮.. ‬هذا الإنسان ربما أخذ منزلة والرسول فمعصوم‮.. ‬وحينما‮ ‬يكون هو أسوة فهو‮ ‬يعلمنا أن الحاكم لا يصح له أن‮ ‬يوزع عنايته ورعايته على واحد خاص‮.. ‬بل‮ ‬يجب عليه ما دام أعلن لأن‮ ‬يدخلوا عليه مجلسه، وأن‮ ‬يجلسوا عنده فعليه أن‮ ‬يوزع نظره‮.. ‬ويوزع أذنه‮.. ‬ويوزع تحيته‮.. ‬ويوزع كلامه إن تكلم على الجميع‮.. ‬حتى لا يعرف أحد أن فلانًا خير منه عند رسول الله، لأن المقاييس كما قلنا هي‮ ‬المقاييس الإيمانية‮.. (‬أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأشدهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة‮).‬
وأيضًا فإن الحسين حينما تكلم عن الرسول في‮ ‬هذه المسألة زاد أمرًا آخر بعدما قال‮: (‬من جالسه أو قاومه لحاجته‮) ‬يعني‮ أخذ رسول الله وجلس معه ليتكلم معه في‮ ‬حاجة أو قاومه أي‮ أخذ وهو قائم‮.. (‬صابره حتى‮ ‬يكون هو المنصرف عنه‮) ‬إذن الإذن لمن؟‮.. ‬الإذن ليس له‮..‬ انتهاء المقاومة ليس له‮.. إنهاء الوقت ليس له‮.. إنما هو لمن‮ ‬يجالسه أو لمن‮ ‬يقاومه‮.. (‬ومن سأله حاجة لم‮ ‬يرده إلا بها أو بميسور من القول‮.. ‬قد وسع الناس بسطة وخلقة فصار لهم أبًا وصاروا عنده في‮ ‬الحق سواء‮.. ‬مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة‮.. ‬لا ترفع عنده الأصوات ولا تقبل‮ ‬به الحلم ولا تنسى فلتاته‮)، ‬هب أن واحدًا قال كلمة أو فلتة صارت منه‮.. ‬لا ينقل من مجلسه رسول الله إلى‮ ‬غيره، وكأنها لم تحدث أبدًا وكأنها حذفت‮.
***
السلام عليك يا سيدي.. من ملياري مسلم مؤمن بك وشاهد أنك محمد رسول الله ونبي الله.
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، في ضياء تجليات الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
اللهم صل على سيدنا محمد صلاة: ترضيك.. وترضيه.. وترضي بها عنا يا رب العالمين.







تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف