«أسوأ مكان فى الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يقفون على الحياد فى أوقات المعارك العظيمة».. عبارة خالدة قالها المناضل الأمريكى مارتن لوثر كينج، مضى عليها أكثر من نصف قرن، لكنها لم تمُت، بل تتجدد مع كل معركة عظيمة تندلع على أى أرض من هذا العالم، مع كل معركة وجود بين حق وباطل، فينحاز للحق أهله، وينحاز للباطل أهله، بينما يختار فريق ثالث أن يقف فى المنتصف، أو بالمعنى الذى استخدمه «لوثر كينج» يختار لنفسه أسوأ مكان فى الجحيم.
نحن هنا لا نتحدث عن القضايا التفصيلية التى تحتمل المواءمة ويجوز معها الحياد، لكننا نتحدث عن القضايا الكبرى والمحطات الحرجة فى حياة الأمم والمواقف المصيرية التى تتعلق بشرف الفرد. أىُّ مواءمة يمكن لإنسان أن يرتضيها بين أهل بيته وثلة من السفلة يريدون انتهاك أعراضهم؟ وأىُّ حياد يمكن لإنسان أن يقترفه بين مُعتدٍ ومُعتدَى عليه؟ وكيف يستريح له ضمير إذا كان المُعتدِى نبتاً شيطانياً غريباً بلا أصل ولا فصل، بينما المُعتدَى عليه من نفس دمه ونفس البطن الذى حمله ونفس الأرض التى ولد عليها؟!
مصر حالياً تخوض واحدة من هذه المعارك الوجودية والمواقف الأخلاقية الكبرى ضد قوى التطرف والإرهاب. إما الدولة المصرية أو جماعات الظلام. المصريون ينحازون لدولتهم، والداعشيون ينحازون لجماعتهم.. إلى هنا تبدو الأمور طبيعية، لكن غير الطبيعى أن تلتبس الصورة لدى قلة تختار أن تقف بالمنتصف فى معركة شديدة الوضوح، فتدافع عن الدولة حيناً وتتهمها وتشكك فيها وتنكل بها أحياناً أخرى، وتشجب الإرهاب مرة وتبرر له وتتعاطف معه مرات، فلا هى فى صف الحق ولا هى فى صف الباطل، لكنها فى أسوأ مكان من الجحيم.
هذا الموقف غير العقلانى وغير الأخلاقى يحاول أصحابه أن يوجدوا له مبررات عقلانية وأخلاقية، فيقول بعضهم إنهم يرفضون قوى التطرف، لكن يرفضون الدولة أيضاً. وفى الحقيقة أنهم فى هذه الحالة ليسوا إلا وجهاً آخر من التطرف الذى تواجهه مصر، يتفق أصحابه مع المتطرفين الأصليين فى ضرورة هدم الدولة، لكنهم يختلفون فقط على التوقيت والتكتيك والآليات ولمن تكون الولاية بعد السقوط. مثلهم مثل جماعة متطرفة على خلاف مع جماعة متطرفة أخرى، لكن الجماعتان تتفقان على شىء واحد: الخراب.
مبرر آخر يصوغه آخرون يبدو وجيهاً ومقبولاً من الناحية الشكلية، لكنه فى جوهره يحمل مغالطات شديدة. يقول أصحابه إنهم بلا شك يرفضون قوى التطرف، لكنهم فى الوقت ذاته يختلفون على طريقة إدارة الدولة لملفات عديدة، اختلاف يبدأ من أول نقطة فى السياسة إلى آخر نقطة فى الاقتصاد. وبطبيعة الحال الاختلاف حق للجميع، بل واجب على كل صاحب رأى أن يوضح رأيه الذى يعتقد فى صوابه ويحذر مما يراه غير صائب. لكن هناك فرقاً كبيراً بين الاختلاف داخل الدولة والخلاف عليها، وفرقاً كبيراً بين الرفض والتأييد فى ملفات عديدة تقبل تعدد وجهات النظر وتنوع الآراء حولها، وبين ألا يحسم الإنسان موقفه تجاه معركة وجودية مصيرية بين بلاده وعدوان إرهابى متطرف أسود يريد أن يجز رؤوس الجميع.
مرة أخرى كى يكون الحديث أكثر وضوحاً: من حقنا أن نختلف كما شئنا، لكن لا نختلف بين الدولة أو اللادولة. ومن حقنا أن نعارض كما شئنا، لكن لا نتورط بهذه المعارضة لنقف فى المنتصف بين بلد يدافع عن نفسه وجماعات مجرمة تسفك الدماء، فيتحول البعض منّا دون أن يدرى إلى نصفٍ يناضل مع الوطن، ونصفٍ يساعد الإرهاب.