رأينا، ونحن نتحدث عن احتفال العالم بالذكرى الخمسمائة لقيام حركة الاصلاح الدينى فى أوروباالتى تمثلت فى الكنيسة البروتستانتية - رأينا أن الداعين للإصلاح الدينى عندنا ـ وفى مقدمتهم جمال الدين الأفغانى ورشيد رضا تلميذ محمد عبده ـ تحدثوا بإعجاب عن مارتن لوثر الذى تزعم الحركة الأوروبية وتطلعوا إلى أن يقوموا فى الإسلام بما قام به لوثر فى المسيحية. لكننا رأينا أن هناك من يعتقد أن مجال الحركة ليس مشتركا بين هؤلاء وهؤلاء، لأن المواجهة التى حدثت بين الثائرين على كنيسة روما لايمكن أن يحدث مثلها عندنا، فليس فى الإسلام كنيسة، وليس فيه سلطة دينية، وإذن على من تقوم ثورة المصلحين المسلمين ومع من تكون المواجهة؟ والسؤال الذى يجب أن نطرحه هنا ونجيب عليه هو: هل صحيح أن الاسلام ليست فيه سلطة دينية؟ فى مناقشته لهذه المسألة يميز خالد محمد خالد بين الإسلام وبين من يتحدثون باسمه فيسميهم كهانا يتسلطون على الناس ويحاربون العقل ويندمون الحياة ويعلمون الناس أن يكرهوها لينفردوا وحدهم بما فيها. أما الدين فهو نقيض الكهانة، لأنه ينفع الناس ويحترم العقل ويذمون الحياة ويدعو لعمارة الدنيا. وخالد محمد خالد بهذا الرأى الذى قدمه فى كتابه «من هنا نبدأ» يعترف بوجود سلطة دينية تتحدث باسم الإسلام وهى على النقيض منه.
وقد رد محمد الغزالى فى كتابه «من هنا نعلم» على خالد محمد خالد فاتفق معه فى البداية على أن المشتغلين بعلوم الدين تحولوا إلى كهان يتاجرون بالدين، ليس فقط فى هذا العصر الذى نعيش فيه، بل أيضا فى العصور السابقة التى ضاق أهلها بهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين للإسلام، وهم أبعد ما يكونون عنه، وفى هذا يقول الشاعر:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
تعيب دنيا وناسا راغبين لها وأنت أكثر منهم رغبة فيها!
يقول الغزالى الذى كان فى ذلك الوقت من زعماء الإخوان «إنى أشهد أن الرجال الذين يمثلون الجيش المدافع عن الإسلام فى جبهته المترامية ـ يقصد علماء الأزهر ـ لايشرفون دينهم، ولا يشرفون أنفسهم، وهذا أهون ما يقال فى وصفهم». لكن الغزالى يأخذ على خالد محمد خالد أنه توسع فى مدلول هذه الكهانة متأثرا ببعض الكتاب الأوروبيين فاعتبرها سلطة دينية. وبهذا جعل الإسلام كالمسيحية والبوذية وغيرهما من الديانات التى تعتبر رجال الكهنوت همزة الوصل بين الله والإنسان.
والحقيقة أن خالد محمد خالد لم يقل إن هذه السلطة المتمثلة فيمن يتحدثون باسم الإسلام سلطة شرعية كما هى فى الديانات الأخري، وإنما تحدث عنها باعتبارها واقعا لايمكن إنكاره، وهذا ما ناقشه عبدالمتعال الصعيدى فى كتابه «من أين نبدأ» فاعترف بوجود رجال دين فى الإسلام يمثلونه ويرجع إليهم فى فهمه ومعرفة أحكامه، وهم بهذا الوضع مرجع شأنهم «كشأن علماء الطب فى الطب وشأن أهل كل علم فى علومهم، فكما لايصح لغير رجال الطب، أن يفتى فيه ولغير أهل كل علم أن يزاحمهم فى علومهم لايصح لغير رجال الدين أن يفتى فيه».
غير أن عبدالمتعال الصعيدى وإن اعترف بوجود رجال دين فى الاسلام أنكر أن يكون هؤلاء سلطة وإنما اعتبر عملهم وظيفة يؤدونها بعيدا عن وظيفة الحكم وهى الوعظ والإرشاد. والسؤال مرة أخري: هل صحيح أن الإسلام ليست فيه سلطة دينية؟ ومن المؤكد أن الإسلام لم يقم على سلطة دينية ولم يكن فى حاجة لها. لكن الإسلام من حيث هو دين شيء، والإسلام من حيث هو دولة وتاريخ شيء آخر.
الإسلام لم يقم على سلطة دينية لأنه ظهر فى مجتمع لايعرف أى سلطة، لا سلطة الله ولا سلطة القيصر. مجتمع يؤلف البدو فيه أكثر من ثمانين بالمائة. والبدو الذين يعيشون فى الصحراء لايعرفون الاستقرار، لأن أسباب الحياة الضرورية لاتتوافر فى مكان واحد. المطر يسقط مرة هنا ومرة هناك. والعشب ينتقل مع المطر من موضع لموضع، والآبار قليلة نادرة فإذا أصبح الوصول إليها بالنسبة للبدوى مسألة حياة أو موت، فلابد من القتال لانتزاع البئر ممن سبقوا إليها، وهكذا يتفرق البدو ويرحلون ويتقاتلون، ولا يستقرون فى وطن، ولا يشكلون جماعة واحدة، ولا يحتاجون بالتالى لسلطة سياسية تمثلهم وتنظم حياتهم، وقبل أن يظهر الإسلام بسنوات قليلة كانت المعارك طاحنة بين الأوس والخزرج فى المدينة، وبين قريش وذبيان فى مكة، وبين بكر وتغلب، وبين عبس وذبيان. ومن المؤكد أن الإسلام فى صورة من صوره كان جوابا على هذه الفرقة، لأنه ألف بين هذه القبائل المتناحرة وجعلها أمة واحدة. وكما أن شروط الحياة فى البادية العربية حالت دون قيام السلطة السياسية فى العصور التى سبقت الإسلام فقد حالت أيضا دون ظهور السلطة الدينية لأن العقائد الدينية ـ لاتنشأ ولا تنضج ولا تصبح ثقافة وشعائر وكهانا ورهبانا وقديسين إلا فى المجتمعات المستقرة التى تختزن تجاربها وتتمثل تاريخها وتتحاور مع الطبيعة وما وراء الطبيعة، وهذا ما لم يكن متاحا للعرب قبل الإسلام ولم يتحقق فى الوثنية العربية التى كانت وثنية فقيرة ساذجة لا تقارن بما كان فى المجتمعات المستقرة. من هنا ظهر الإسلام فى بيئة لا وجود فيها للسلطة، وهو وضع يسمح للمسلمين من الناحية النظرية على الأقل بأن يكونوا أحرارا فى ممارسة شعائرهم الدينية ـ يستفتون قلوبهم ولا يلجأون لوسطاء ولا يخضعون لسلطة تفرض عليهم ما تراه «لست عليهم بمسيطر».
لكن هذا الوضع الذى ظهر فيه الإسلام استدعى قيام سلطة تجمع الأطراف المختلفة التى دخلت تحت رايته: المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، والمسلمين واليهود. ومن الطبيعى أن تكون هذه السلطة التى أقامها الاسلام سلطة جامعة دينية وسياسية فى وقت معا، فالحاكم أمير المؤمنين يسوسهم ويقودهم ويؤمهم فى الصلاة ويحاكمهم ويقضى بينهم بنفسه وبمن معه من الوزراء والكتاب والقادة والفقهاء والقضاة وإذن فالسلطة الدينية موجودة فى الاسلام لكنها ليست مستقلة، وإنما هى تابعة فى الدولة التى اختلطت فيها السياسة بالدين. وهذا ما ورثناه وما نعيش فيه حتى الآن. دولة دينية بغطاء مدنى أو مدنية بمرجعية دينية!