إعمال العقل جزء أصيل فى ترسيخ المفاهيم الصحيحة والسليمة للعقيدة، بمعنى أنك تعتقد ما يناسب اقتناعاتك التى اكتسبتها من خلال قراءاتك، أو حواراتك، أو تجاربك، أو نتيجة مجموع الثلاثة منصهرين فى بوتقة واحدة، ليخلص لنا فى النهاية مكون فكرى محدد المعالم.
إلا أن غلق العقل وتركه لبعض الفئات عديمة الإنسانية منزوعة الرحمة، لتفعل به ما يحلو لها، هو أسوأ أنواع الأفعال، فهؤلاء يستطيعون بكل يسر الولوج لتلك العقول الساكنة لغرس قيم وأفكار خربة، لصناعة عقيدة فاسدة، عقيدة تقيم الحياة من منظور أعوج، تحرم ما أحل الله، وتحلل ما حرمه.
أتحدث عن التكفيريين، الذين قرروا صياغة دين جديد ما أنزل الله به من سلطان، دين يقوم على القتل والسبى، ورفض الحياة، التى خلقها الله فى أبهى صورها، وقدسها وأجلَّها، ثم ينسبون نفسهم للإسلام!
رب الإسلام أوضح على لسان نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أن عبدا رأى كلبا يكاد يموت من العطش، فنزل إلى بئر، وملأ خفه وعاد ليسقيه، فكان جزاؤه الجنة، إنسان رحم حيوانا، أعلن خالقهم أن جزاء الإحسان هو الإحسان، فما بالنا بإنسان يرحم إنسانا، ما جزاؤه؟ وكلنا يعرف قصة المرأة التى دخلت النار بسبب حبسها هرة، لا هى أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض.
إنه درس بليغ يوضح قيمة الرحمة وقدرها عند الله، وحينما يقول الله فى سورة المائدة الآية 32 «.. مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً..»، فهو يؤكد قيمة النفس، فمن قتل نفساً بغير حق، كأنما قتل الناس جميعا، من أين جاءت اقتناع هذا التكفيرى بقتل نفس واحدة! فما بالنا بقتل عدد غير محدود من الأنفس الطاهرة!
أى عقيدة هذه التى تعطى له الحق فى قتل العزل والأبرياء من الأطفال و النساء والشيوخ ومعهم الشباب، من أنت؟
أنت فاسد، عقيدتك فاسدة، لست بمسلم، فالمسلم هو من سلم الناس من لسانه و يده، وأعرض هنا آيتين، الأولى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» سورة هود الآية 118، توضح أن الله خلق الناس أمما مختلفة، وكان يقدر على جعلهم أمة واحدة، والآية الثانية «. إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» سورة الكهف الآية 30.تقطع بأن الله يؤجر كل من يحسن العمل، من كل خلقه أيا كانت ملته، بل سأذهب لأبعد من ذلك.
وأسأل التكفيريين إذا كنت تعرفون الله أو هكذا تقولون، هل تعرفون أنه يرزق كل خلقه، وكان يقدر على أن يرسل رزقه لمن يعبده فقط. لنعرف أن رحمته وسعت كل شىء، ورغم أنى أعى أن كلماتى لن تؤثر فى عقولكم التى ركدت فى مستنقع التكفير. فقد أعطيتم لأنفسكم حقا من حقوق الله. هو وحده من بيده الحساب، و لم يعطه لأحدٍ من خلقه.
هؤلاء عقولهم ذهبت بلا عودة، فلن تجمعنا مائدة للحوار، لنعمل العقل ونأخذ بالأسباب، فقد اعتبروا القتل والتكفير شريعتهم، ووجدوا من يقف معهم، ويمدهم بالأموال الوفيرة لشراء الأسلحة ليغتالوا الناس، ليحققوا أغراضهم الدنيئة، غطوا أنفسهم بشعارات الإسلام منها برىء، ليوهموا الناس بهتانا أنهم الفئة الناجية والباقين ضالون. لقد خالفوا أمر الله « ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..» سورة النحل الآية 125، فهل ما يفعلونه هو الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؟!
بات السبيل الأوحد لمواجهتهم هو محاربتهم بكل قوة ممكنة، قوة تحمى الأبرياء وتحافظ على أرواحهم، قوة تجتثهم قبل أن يشيع فسادهم، ولكن هل هناك طريقة أخرى؟
نعم، لابد من حصار هذا الفكر المتطرف، ومجابهة أسبابه، بطريقتين، الأولى، تجفيف منابع التمويل، فمقاطعة الممولين أفضت إلى حدوث نجاحات جيدة فى بقاع مختلفة، ومع استمرار المقاطعة يزداد النجاح.
أما الطريقة الثانية التى لا تقل أهمية عن سابقتها، فتتمثل فى كشف زيفهم، وتعرية غطائهم الساتر لفاحشتهم، و للإعلام دور حيوى فى هذا الإطار، دور غاب عنه، بعد أن فقد بريقه الذى اكتسبه من خلال خبرات طويلة كان فيها الرائد، وتحول إلى بوق زاعق، عرض صورا للحوادث التى أدمت قلوب البشر فى شتى بقاع الأرض، وظل يندد ويندد وهو يعلق عليها، دون أن يفند ويناقش الأسباب والدوافع، أفاض فى كيل الاتهامات، وفاته أنه يملك الوثائق والمستندات التى تؤكدها، وفى زخم الأحداث نسى أن يعرضها.
إننا الآن فى مفترق طرق عصيب، يتطلب أن يستعيد إعلامنا ثقة المشاهد من خلال تقديمه لأوراق جديدة، مقنعة، تملك الحضور، وتستطيع أن تمد جسور الحوار الرشيد بينها وبين المتلقى، بعد أن احترقت الأوراق القديمة، وأصبحت بلا فائدة.
هذا إن أردنا مواجهة مزدوجة لهذا الفكر المتخلف الذى قتل الرحمة ، فالقوة الحازمة ستواجه الذين ذهبت عقولهم لتقضى عليهم، والإعلام «المحترف» سيجتهد لإنارة العقول قبل أن تفلت بعضها و تبدأ رحلة ذهاب بلا إياب.