لست هنا في مقام الداعية. ولا أنا أصلح لدور المجدد للخطاب الديني.. لم أدرس في الأزهر. ولم أتخيل نفسي داخل "جبة وقفطان". أو دخلت رأسي يوماً في "عمامة".. من يومي. لا أحب الجلابيب. لا القصيرة. ولا الطويلة.. لم أحفظ القرآن كاملاً. ولم أعرف إلي يومي الفرق العلمي عند أهل الحديث بين الضعيف. والحسن. والمقبول. والمردود.. أنا من جيل تلقي دينه عن الكتاب المدرسي. وكان يحفظ آيات المنهج. وأحاديث المنهج. ويعرف تفسيرها. ومقاصدها. ومعاني كلماتها من المنهج.. أنا ممن تشكل التاريخ الإسلامي في أذهانهم بعيون. ورؤية. وعقول واضعي المنهج.
كنت أتذوق حلاوة القرآن. علي لسان عبد الباسط. وشعيشع. ومصطفي إسماعيل. وأشتري من "مصروفي" شرائط الكاسيت بأصواتهم.. كان ما تيسر من المصروف يدخل جيب صاحب "مكتبة الأهرام". بمدينتنا الصغيرة.. وكنت أشتري الكتب الدينية الصغيرة.. أقرأ ما أقرأ. وأكون نواة لمكتبة صغيرة.
في طفولتي. كانت يدي تمسك بيد أبي رحمه الله. ونحن في طريقنا كل جمعة إلي مسجد مختلف.. كان يحب السعي إلي المساجد الأبعد.. كان يطمع في خطوات أكثر. وثواباً أكبر.. وكان يخبرني أن كل موضع سجود يشهد لصاحبه يوم القيامة.. لهذا كان يصلي في "جوامع" مختلفة.. كان ينصت. ومثله أنصت إلي الواقف علي المنبر.. في طريق العودة كان يسألني فيمَ تكلم الخطيب.. كنت أحفظ ما يقال. وأعيده علي مسامع والدتي. وشقيقاتي. وجدتي لأمي. ونحن حول وجبة الغداء.. كن ينصتن.. وكان أبي يبتسم. راضياً.. وكنت أفعل ذلك كل أسبوع.
ذات ليلة -ولم أكن تخطيت وقتها العاشرة من عمري- ذهبت وحدي لصلاة العشاء في "زاوية" لا تبعد كثيراً عن بيتنا.. بعد الصلاة. لم يخرج المصلون كلّى إلي سبيله.. خفضوا الأضواء.. وأغلقوا الأبواب.. وانتظموا في حلقات.. جار أعرفه كان بينهم. ما منحني اطمئناناً. شجعني علي البقاء.. رضا الله. وفضولي كانا سببين كافيين للتغلب علي خوف طفل من ظلام. وضجيج مُلحَّن. وتأوهات غير مفهومة. وحركات تميل بالذاكرين. ويميلون بها يميناً. ويساراً.. لم أتنبه إلي أن الوقت تأخر بي.. حين هممت بالخروج. منعتني الأبواب الموصدة.. كان الجميع. وبينهم جارنا -رحمه الله- في شبه غياب عن الواقع.. علمت بعدها أنهم "أصحاب طريقة".. كان اسمها طويلاً يستعصي علي الحفظ.. أتذكر من الاسم الطويل كلمة " البرهانية".. وأتذكر جيداً كيف نهرني أبي بشدة. حين عدت. وأخبرته.. قال إن الإسلام الحقيقي لا يعرف الفِرَق. والطرق. والجماعات. والمسميات.. لم يفرح أيضاً لفرحتي عندما أتيته متأخراً ليلة أحد الأعياد. وأخبرته أنني جهزت مع "الإخوان" ساحة العيد. وهدايا الأطفال.. قال: "ألم أخبرك أن الإسلام لا يعرف الجماعات ؟".. أول ما سمعتها سمعتها منه: "الكلمة الطيبة صدقة".. و"تبسمك في وجه أخيك صدقة".. كان يأنس لحديث الشيخ الشعراوي. عصر الجمعة.. ويجمعنا مساء الاثنين. حوله. وحول برنامج "العلم والإيمان" للدكتور مصطفي محمود.. كان يري الدين المعاملة.. وكان يري الدين علماً.
المناخ العام لم يكن يختلف كثيراً عنه داخل بيتنا.. كانت الدولة حاضرة في كتب التربية الدينية. وفي المساجد. وعلي الشاشة الصغيرة.. كان الدين في البيوت فطرة سليمة. وتربية حكيمة.. لم يكن من الصعب أن نفرز. ونلفظ المفاهيم الخاطئة.. كان عندنا ميزان.. كان الميزان أن الإسلام دين التسامح. والرحمة.. كان الميزان الفطرة.