جمال سلطان
انتفاضة القدس .. تحية للأزهر الشريف والإمام الأكبر
كان يوم أمس يوم الغضب العربي والإسلامي في مختلف أنحاء العالم ردا على القرار الأحمق للرئيس الأمريكي بنقل سفارة بلاده في فلسطين المحتلة إلى القدس والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة للدولة الغاصبة ، ولا يوجد رمز ديني أو سياسي ولا قيادة ولا حاكم ولا حكومة إلا وأدان القرار واعتبره كارثة ، وهذا تطور مهم ، مهما استقله بعضهم ، ويكشف أن الرأي العام العربي والإسلامي يملك قوة ضغط هائلة لا يملك أحد أن يتجاهلها أو أن يتخلف عن تيارها الجارف ، لا في الداخل ولا الخارج ، بل وصل الأمر إلى حد أن الملك عبد الله بن الحسين عاهل الأردن يغرد على صفحات التواصل الاجتماعي معلنا تضامنه مع غضبة شعبه وفخره بتظاهراتهم من أجل القدس ، وهي لفتة طيبة بلا شك ، بل إن أولئك "المتصهينين" من الكتاب والمثقفين والهواة ، اختفوا من المشهد ولم يجرؤا على الظهور ، من عنفوان الغضب الجماهيري ، وانكشاف زيف الحياد الأمريكي من جديد .
يبقى من بين تلك المواقف موقف الأزهر الشريف أكثر بروزا وحضورا ، سواء من خلال احتضان الأزهر لأكبر وأهم مظاهرة مصرية نصرة للقدس واحتجاجا على قرار ترامب ، وهي المظاهرة التي حاصرتها قوات الأمن ولم تسمح بخروجها بعيدا عن المسافة القصيرة بين الأزهر والحسين ، وهو سلوك معيب من بقايا الهلع وفوبيا الخوف من التظاهرات السلمية باستحضار "عفريت" يناير على الدوام ، غير أن تلك المظاهرة تحديدا محت عارا وعورة كان يمكن أن تلحق بمصر ، حكومة وشعبا ، في أحداث الأمس ، ثم كان بيان الأزهر الحاسم بالتنديد بالقرار الأمريكي وإعلان رفضه ، وإعلان التضامن مع الشعب الفلسطيني وتأييد غضبه وانتفاضته وتأكيد الأزهر أنه لن يخذلهم أبدا في قضيتهم العادلة ، كان هذا موقفا لافتا في أحداث الأمس ، وتناقلته وكالات الأنباء العالمية ومختلف الصحف والإذاعات ، قبل أن يعلن شيخ الأزهر رفضه لاستقبال نائب الرئيس الأمريكي "مايك بنس" والذي كان قد تقدم بطلب لمقابلة شيخ الأزهر عن طريق سفارة بلاده في القاهرة ، وذلك في جولته العربية المقبلة ، وكان الدكتور أحمد الطيب قد وافق على المقابلة سابقا ، فعاد أمس واعتذر عنها في بيان رسمي ورد فيه قوله : (الأزهر لا يمكن أن يجلس مع من يزيفون التاريخ ويسلبون حقوق الشعوب ويعتدون على مقدساتهم) ، فكان بمثابة صفعة على وجه الإدارة الأمريكية من أكبر مرجعية دينية ومؤسسية للمسلمين في العالم .
من يعرف فضيلة الإمام أحمد الطيب عن قرب يعرف نقاءه وحسه الوطني العالي وعفة نفسه واعتداده بموقعه أيا كان ـ من غير كبر ـ وحرصه على استقلال إرادته وموقفه ، وهذا ما لا يدركه ـ مع الأسف ـ هؤلاء الذين يحشرون كل خلاف سياسي داخلي في تقييم الناس ، فمن ليس معنا فهو ضدنا ، ثم هذا الذي هو "ضدنا" نستبيح عرضه وسيرته ونفتري عليه الأكاذيب آناء الليل وأطراف النهار ، ولذلك لم يكن مفاجئا لي شخصيا هذا الموقف الجريء من فضيلة الإمام ، فهذه طبيعته وهذه أخلاقه وهذا هو حسه الإسلامي والإنساني الأصيل تجاه بني أمته ، مستشعرا مسئوليته ـ كأكبر مرجعية دينية ـ تجاههم ، ومن ثم ، جاء موقفه في تلك المحنة التي ألمت بالقدس الشريف وأهلنا في فلسطين ، على قدر مقامه ومسئوليته ، وهو الموقف الذي حظي باحترام العالم ، ولفت انتباه وتعليق كثير من الكتاب والمحللين العرب والأجانب .
كما قالوا ، رب ضرة نافعة ، فقد أتى توقيع ترامب على القرار الفاجر لكي ينشط حياة الأمة ، ويعيد الحيوية لنضالها من أجل قيمها ومن أجل القدس ومن أجل فلسطين المغتصبة ، أتى ليستنهض همم الشعوب ، والتي ظن بعضهم أنها انكسرت وتلاشت عزائمها بعد انتصار الثورات المضادة في المنطقة العربية ، وجهد كثير من الأنظمة ومثقفي الخيانة وإعلام العمالة لنشر روح اليأس والاستسلام على الشعوب ، أتت انتفاضة القدس لكي تقول أن الشعوب بخير ، وأنها ما زالت حية وتنبض بالكرامة ، كما أتت تلك الانتفاضة لكي تلقي بالأحجار الضخمة أمام مسيرة التطبيع التي كانت قد نشطت من جديد وراحت تتسلل ويروج لها الصهاينة يوميا في إعلامهم ، صدقا أو باطلا ، أتت الانتفاضة لكي تقول للجميع أن "الخيانة" لن تمر ، وأن حضور القدس وفلسطين في القلوب والضمائر أرسخ مما كانوا يتصورون .
عاش جهاد العرب والمسلمين من أجل الحق والعدل ، وعاش نضال شعوب العالم المتضامنة مع قضايانا العادلة ، وكل التحية لمن ضحى أمس بشيء من وقته أو حريته أو دمه ، لكي يسجل مشاركته في انتفاضة القدس الشريف ، وتحية خالصة للأزهر الشريف ولفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ، على موقفهم الشجاع ، والشيء من معدنه لا يستغرب .