ما أصعب الأيام حين يكون الحزن فيها ثقيلا ، ويكون الكلام فيها حبيس النفس غير قادر على الخروج ، وحين تكون الكلمة واقفة عند اللسان لا يستطيع النطق بها ، أو واقفة عند سن القلم فلا يستطيع كتابتها ، ما أصعب الأيام حين يختلط فيها الحزن الخاص بالحزن العام فندور فى دوامة الأحزان التى ليس لها من دون الله كاشفة .
وقد شاء ربى ـ جل شأنه ـ أن يمتحننا بثلاث موجات متتالية من الحزن الثقيل قبل أن يغادرنا عام 2017 حتى نعرف كيف يكون الصبر الجميل ، وكيف نتأسى برسولنا الكريم فى الابتلاءات والملمات ، فقد ابتلى صلى الله عليه وسلم بوفاة زوجه وعمه فى عام واحد ، أسماه عام الحزن ، وابتلى بالمصائب والافتراءات والإهانات والهزائم ، لكنه صمد وصبر حتى أتاه الفتح والنصر المبين ، وواساه ربه وسانده وشجعه على الصبر " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " فكان لنا الأسوة الحسنة فى الصمود والصبر والقدرة على التحمل ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا على قدر الإفادة منها .
كان ابتلاؤنا الأول فى وفاة زوجتى ، المربية الفاضلة منى عبد العزيز أبو زيد ، بعد مشوار طويل مع المرض كانت فيه نعم الصابرة المحتسبة ، وقد فقدنا بفقدها الزوجة الصالحة والأم الحنونة والشريكة القادرة على تحمل مسئولية الأسرة والبيت بحب وإخلاص على الوجه الذى يرضى الله ورسوله ، أنا لا أزكيها على الله هو سبحانه أعلم بها ، لكننى أشهد أمام الله وأمام الناس أنها كانت نموذجا للمرأة المسلمة الطيبة المتسامحة التى تتفانى من أجل دينها وأسرتها وعملها ، ويشهد لها كذلك كل من عرفها أو تعامل معها فى محيط عائلتنا وأصدقائنا ومدرسة الطلائع الإسلامية للغات بالمهندسين التى عملت بها ، وتخرجت على يديها أجيال من الشباب والشابات كانت ـ وما زالت ـ بالنسبة لهم الأم والسند والموجه والمثل .
وإذا كان المعتاد أن تفخر النساء بأزواجهن الرجال فإننى لا أجد غضاضة أبدا فى أن أفخر بزوجتى المرحومة بإذن الله ، ليس بمالها ومركزها وحسبها ونسبها ، وإنما بحسن أخلاقها وطيب عشرتها وشغفها بفعل الخيرات وقضاء حوائج الناس والسعى لفك كرب المكروبين بفطرة فطرها الله عليها ليس فيها تكلف ولا رياء ، كانت ترى فى نفسها وسيلة سخرها الله تعالى لكل ذى حاجة حتى تقضى حاجته ، فما ردت سائلا ولا فحشت فى قول ولا أهانت أحدا ولا تسببت فى أذى أو ضرر لأحد ، ولا عاملت أحدا بمعاملته ، وكانت كلمتها الأثيرة : " إن لم ننفع الناس لا نضرهم " .
حتى وهى فى أصعب لحظات المرض كانت تسأل عن مخصصات الزكاة والصدقات والقروض الحسنة ، وتوصى ابنتنا الكبرى بأن تسجل كل صغيرة وكبيرة فى الأجندة المخصصة لذلك ، وأن تذهب بنفسها لتعطى كل ذى حق حقه ، وحين كنت أشفق عليها من هذه المسئوليات وأدعوها للتحلل منها وتركها لمن يقدر عليها كانت تغضب فى نفسها وتنظر لى نظرة صامتة ذات مغزى ، ثم تغمض عينيها وكأنى أسمعها تقول " قريبا سأرحل وأتحلل من كل شيئ ".
الآن .. لم تأخذ معها شفقتى ولا كلامى ، وإنما أخذت هذا العمل ، وكل عمل صالح قدرها الله عليه وحببها فيه وسخرها له ، وأخذت مها دعاء الصالحين ممن عرفوها أو لم يعرفوها ، ودعواتى شخصيا ، فقد تركت لى بيتا عامرا بالمودة والرحمة ، ودائرة واسعة من المحبين المخلصين ، أسأل العلى القدير أن ينفعها بدعائنا جميعا وأن يقبل منها ما قدمت ويجعله فى ميزان حسناتها ، و يتقبلها فى عباده الصالحين، وأن يجعل مثواها الفردوس الأعلى من الجنة ، كما كانت تدعو دائما فى صلاتها .
ثم كان ابتلاؤنا الثانى بعد ثلاثة أيام ، فقبل أن تجف دموعنا وقعت جريمة الاعتداء الآثم على المصلين بمسجد الروضة فى مدينة بئر العبد بسيناء ، جريمة بشعة انخلعت لها القلوب ، ليس فقط بسبب كثرة عدد الشهداء الأبرياء ـ أكثر من ثلاثمائة من المصلين فى يوم الجمعة ـ وإنما أيضا لأن أصابع الاتهام كلها تشير إلى أن الجريمة ارتكبت بأياد مسلمة تدعى الجهاد فى سبيل الله، أياد مضللة مسلوبة الإرادة.
لقد أيقظت فينا هذه الجريمة الشنعاء الحزن المتراكم بداخلنا على شهداء القتل الجماعى فى الكنائس والأكمنة الأمنية لرجال الجيش والشرطة ، رغم أننى لا أستبعد أبدا أن يكون للعدو الصهيونى الغادر يد فى تأجيج هذا الإرهاب وتوظيفه لخدمة مشاريعه التوسعية الهدامة .
ومؤخرا جاء الابتلاء الثالث فى الأسبوع الماضى بإعلان الرئيس الأمريكى ترامب الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، لم يكن القرار مفاجئا ، كنا نعرف أنه سيحدث فى يوم ما ، إن آجلا أو عاجلا ، لكن الحزن الثقيل تمكن منا لشعورنا بالقهر والعجز فى هذه المرحلة التعيسة من تاريخنا التى سادت فيها الفتنة والفرقة وعم فيها الاقتتال بين أبناء الأمة الواحدة ، ولذلك كان من الطبيعى أن يأتى رد فعل الأمة على هذا القرار الأمريكى هزيلا بلا أدنى تأثير.
ضاعت القدس وضاع المسجد الأقصى وضاعت هيبة العرب والمسلمين ، وما زلنا للأسف تائهين مغيبين لا نعرف عدونا الحقيقى ونبحث عن عدو بديل ، ومن العجب أن البعض مازال يثق فى ألاعيب هذا الرئيس الأمريكى المتصهين .
إنها أيام ثقيلة ، وأحزان ثقيلة ، فاللهم فك كربنا ، وخفف أحزاننا ، والطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير .