الأهرام
د. هالة مصطفى
القدس وصفقة القرن
جاء قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل صادما، حتى وإن لم يكن مفاجئا، إذ لم يؤد فقط إلى ثورة غضب عارمة على المستويين العربى والإسلامى كما هو متوقع، وإنما لاقى معارضة غير مسبوقة من أقرب حلفائه، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بل والاتحاد الأوروبى كله تقريبا، إضافة إلى الأمم المتحدة، فقد قفز به على كل القرارات الدولية السابقة والأسس التى قامت عليها عملية السلام منذ مؤتمر مدريد 1991 وأوسلو 1993 والتى وضعت القدس ضمن قضايا الحل النهائى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما دعا وزير خارجيته ريكس تيلرسون، فى محاولة لاحتواء تداعيات القرار وربما توزيع الأدوار، إلى التصريح بأن الوضع النهائى للمدينة بما فى ذلك حدود السيادة الإسرائيلية عليها سيُترك للتفاوض.

على الرغم من أن كثيرا من التحليلات والكتابات أرجعت تلك الخطوة إلى سعى ترامب لتجاوز أزمته الداخلية بعد الاتهامات والتحقيقات الجارية مع فريق من معاونيه على خلفية التدخل الروسى فى انتخابات الرئاسة، إلا أن ذلك ليس مبررا كافيا، بل ويحمل نوعا من التبسيط فى قراءة الحدث بأبعاده الأشمل التى ستتكشف حتما على المدى الأبعد.

هذا القرار كان جزءا رئيسيا من حملة ترامب الانتخابية، ما ينفى عنه كونه قرارا طارئا استوجبته تطورات تلك الأزمة الداخلية، كذلك هو يعبر عن موقف أمريكى ثابت، وقد سبق للكونجرس أن أصدر قانونا بنفس المعنى (1995) فى عهد إدارة بيل كلينتون، متضمنا فقرة تتيح للرئيس فقط تأجيل تنفيذه كل ستة أشهر، وهو ما جرى عليه العرف فى ظل الإدارتين التاليتين لجورج بوش الابن وباراك أوباما، ولم يكن السبب هو وجود أى خلاف من حيث المبدأ ولكن فى اختيار التوقيت المناسب، وليس هناك توقيت مثالى أكثر من الوقت الحالي، فالمنطقة كلها مشتعلة بصراعات وحروب لاتخص إسرائيل، فالصراع الأساسى الذى تندرج تحته تلك الحروب سواء كانت أهلية بصيغة طائفية ومذهبية أو بالوكالة، بات عنوانه الصراع السنى الشيعى بقيادة سعودية إيرانية، من سوريا ولبنان والعراق إلى ليبيا واليمن، تحطمت فيها الدول ولم تعد قادرة حتى على حماية كيانها ذاته، ناهيك عن المآسى المترتبة على تمدد التنظيمات الإرهابية من داعش والقاعدة وما تفرع عنهما من تنظيمات، بحيث صارت شراكة القوى الإقليمية الكبيرة مع الولايات المتحدة تقوم على مواجهة إيران من ناحية، والحرب على الإرهاب من ناحية أخري، وليس على دورها فى عملية السلام، وهو تغير جوهرى فى بنية العلاقات العربية الأمريكية من الطبيعى أن يلقى بظلاله على مجريات الأمور فى منطقة الشرق الأوسط ككل.

بخلاف هذا المشهد الإقليمى المتردى وبالتوازى معه، كان يتم الإعداد فى الكواليس لتسوية عربية إسرائيلية واسعة تُحل من خلالها القضية الفلسطينية تحت مسمى «صفقة القرن» أو الصفقة الكبري، التى تواتر الحديث عنها ومن المنتظر أن تُعلن مطلع العام المقبل، كما أشار السفير الأمريكى لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، وهو من المقربين لترامب وكان يعمل محاميا خاصا له، وقد نشرت صحيفة النيويورك تايمز منذ أسابيع تقريرا مطولا يقدم ملامح أكثر تفصيلا عن تلك الصفقة، يتوافق مع ما تم تداول أجزاء منها من قبل دوائر أمريكية أخرى والأفكار التى طرحها كبير مستشاريه وصهره جاريد كوشنر فى جولاته إلى المنطقة ودول الخليج خاصة السعودية، وتدور كلها حول اعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل أى بشطريها الغربى والشرقي، الذى يعتبره الفلسطينيون عاصمة دولتهم المستقبلية، والاقتراح أن تُعطى لهم ضاحية «أبوديس» القريبة من الجانب الشرقى للمدينة لتكون عاصمة بديلة، أما عن حدود الدولة، فلا تعترف الخطة بحدود 1967 كحدود لها، فترسيم الحدود النهائية سيكون وفق مبدأ تبادل الأراضى (وهذه المسألة تحديدا طُرحت فى جميع خطط السلام التى قُدمت ولذلك كان يتم إرجاؤها) فإسرائيل بوضوح لا تنوى انسحابا كاملا من الضفة الغربية (التى مازالت تُطلق عليها اسم يهودا والسامرة مُسبغة عليها صفة دينية توراتية)، ولا إزالة المستوطنات التى بُنيت على أجزاء منها، وهى الآن مُقسمة إداريا إلى ثلاث مناطق (أ) و(ب) و(ج) تبعا لدرجة السيادة الفلسطينية والإسرائيلية عليها، على أن يحصل الجانب الفلسطينى على ما يوازى تلك الأجزاء فى صحراء النقب الخاضعة للجانب الإسرائيلي، أما عن غزة، التى لا تحتل لديها نفس الأهمية الدينية للضفة، إلا لكونها مركزا للمقاومة المسلحة ومُهددة لأمنها (وهو ما جعلها تنسحب منها بقرار أحادى منفرد عام 2005)، فالمقترح الذى رفضته مصر، كان فى توسيع رقعتها الجغرافية بإضافة مساحة لها من سيناء على أن يتم تعويضها بمساحة مساوية من صحراء النقب أيضا، وبالطبع ليس هناك مجال للحديث ضمن هذه الخطة على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذين ترى توطينهم وإعطاءهم جنسيات الدول التى يوجدون فيها.

فى المقابل، يتم عرض مشروعات تنموية واستثمارية ومساعدات مالية كبيرة، فضلا عن إنشاء شبكات طرق ضخمة تربط بين أجزاء الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها ومحطات لتحلية المياه كى تضمن لها الحياة، تسهم فيها أمريكا والمجتمع الدولى والدول الٌإقليمية الغنية وعلى رأسها السعودية.

هذه باختصار هى رؤية ترامب لحل «الدولتين» أو تحديدا لقضايا الحل النهائى (الحدود، القدس، المياه، اللاجئين) التى تجمدت بسببها كل مساعى السلام فى السابق، وهى الصيغة التى يسعى لطرحها كإطار للمفاوضات، سواء بفرض أمر واقع مثلما حدث فى هذا القرار، أو بممارسة ضغوط على الأطراف المعنية، فليست مصادفة - قبل يوم واحد من قرار نقل السفارة - أن يصوت مجلس النواب الأمريكى بالإجماع، أى من الديمقراطيين والجمهوريين على السواء، على مشروع قانون لوقف المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية، بزعم استخدامها فى دفع رواتب لمن أدينوا فى جرائم عنف حاملا اسم «تايلور فورس» (وهو اسم أحد المواطنين الأمريكيين قُتل على يد فلسطينى فى أثناء زيارته إسرائيل العام الماضي)، والمتوقع ألا يختلف التصويت كثيرا حال عرضه على مجلس الشيوخ، وبنفس المنطق وجه تيلرسون - بعد يومين فقط من القرار - انتقادا علنيا غير معتاد لسياسة السعودية الإقليمية تجاه اليمن ولبنان وقطر.

هذه المؤشرات وغيرها، تؤكد أن قرار ترامب مخطط له فى سياق الصفقة الإقليمية الكبري، بغض النظر عن كونها ستتحقق حرفيا أم لا، والذى يبدو واضحا أنه يراهن على الوقت، بعدما أعطى إشارة البدء لتطبيقها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف