الأهرام
سناء البيسى
المـطـران كـابوتشى
من هول الهجمة الأمنية بالأسلحة الثقيلة تكاد تنخلع أبواب العربة القادمة من مدينة حلب التاريخية: التى يمتد تاريخها إلى أبعد بكثير من ذاكرة الإنسان التاريخية، وتمتد حدودها من وادى الفرات إلى وادى العاصي.. بلد سيف الدولة الحمدانى من علت ذكراه عن الخلفاء والسلاطين بمن اجتمع لديه من أدباء وشعراء وعلماء ومفكرين فى العصر الإسلامى الأول إلى عصر حديث برز فيه مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزى والعلاّمة خير الدين الأسدى، والأب الباحث جبرائيل رباط.. حلب التى تنطق لفظة «سدّاجة» بدلا من سجادة فيقولون «اشترى سدّاجة عجمية»، ويقولون «انجعز» وأصلها «انزعج» فيقولون «لا تنجعز، وايش جعزك، وليش مجعوز»، و«هكل» والأصل فيها «هلك»، ويحوّلون حرف الـ«ش» إلى «س» فبدلا من شجاع يُقال «سُجاع»، وبدلا من الحرف «م» يُقال «ب» مثل مسمار التى تُقال «بصمار»، وتكثر كلمة «إشو» فى الكـلام فيقول الحلبيون «إشّو الخبر، وإشى الحكاية».. حلب المشهورة بالمخطوطات النادرة التى بلغت 5240 مخطوطا دينيًا بدار الكتب الوطنية وحدها..

من هول الهجمة الأمنية تكاد تنخلع أبواب العربة التى تقل نيافة المطران هيلاريون كابوتشى القادم مع مساعده من منبت رأسه بمدينة حلب إلى مدينة عمله مطرانا لكنيسة الروم الكاثوليك فى القدس، لتقاد تحت الحراسة المشددة براكبيها إلى مركز الشرطة بعدما نما إلى السلطات الإسرائيلية ــ التى ترصد تحركات المطران ــ بوجود أسلحة مهربة فى سيارته التى يتم تفكيكها ليُكتشف العديد من قطع السلاح منها 4 رشاشات كـلاشينكوف، ومسدسان، وعدة طرود تحتوى على متفجرات بلاستيكية، وصواعق كهربائية، وعشرات القنابل اليدوية وغيرها.. ويصمد المطران أمام عذابات الصفعات والركـلات واللعنات التى لا تنتزع رغم شراستها اعترافه بأسماء الفدائيين الفلسطينيين المنتظرين لحمولته مدافعًا بأنه قد تم نقل تلك الوسائل القتالية إلى سيارته دون علمه، إلا أن تفتيش الأمتعة قد أسفر عن خطاب موقع بخط يده كتب عليه رقم المسئول الفتحاوى «أبوفراس» فى لبنان، مما أثبت ضلوعه فى تهريب السلاح، وبالتالى أتى اعتراف كابوتشى بأنه تلقى فى ابريل 1974 من المدعو أبوفراس حقيبتين، ونقلهما بسيارته إلى الضفة الغربية حيث أخفاهما ــ كما أوعز إليه ــ داخل مدرسة الكنيسة اليونانية الكاثوليكية فى «بيت حنينا»، وتوالت اعترافات كابوتشى من أنه قد طُلب منه فى يوليو من نفس العام نقل رسائل أسلحة متتالية أخرى تم إخفاؤها فى أماكن مختلفة داخل سيارته.. و..هذه المرة تم ضبط السيارة.

وتمت محاكمة المطران وفُرضَ عليه السجن لمدة 12 عاما قضى منها أربعة فى زنزانة انفرادية لم تكن تتسع لفرد ساقيه، فأضرب عن الطعام سبعة وثلاثين يومًا لينخفض وزنه 35 كيلوجراما حتى بلغ هزاله حافة الموت.. وبلغت أخبار معاناة رجل الدين المسيحى جدران الفاتيكان فقام بابا روما بالوساطة للإفراج عنه، فقبلت إسرائيل بشرط الخروج من إسرائيل بلا عودة، فخرج فى 8 نوفمبر 1978 إلى روما واعدًا بألا تكون له أية صلة فى المستقبل بالقضية الفلسطينية.. لكنه المطران الذى لم يقبع جبانًا فى منفاه بعيدًا عن أرضه وناسه وقضيته، فقد ظهر اسمه بعد عامين لا غير فى قائمة المطلوبين فى عملية احتجاز رهائن، وخطف طائرة «إير فرانس» بأوغندا والتى أحبطتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ولم يمنعه منفاه القسرى المراقب فى روما من متابعة مناصرته للفلسطينيين فشارك فى عام 2009 فى رحلة متن سفينة الإغاثة «أسطول الحرية» التى تحمل الأمتعة والغذاء لأهالى غزة المحاصرين على يد السلطات الإسرائيلية، وتمت مصادرة كل ما فيها، وطرد كل من تواجد هناك إلى لبنان وبعدها فى 2010 اعتلى المطران متن السفينة «مرمرة» فى محاولة لكسر الحصار البحرى الإسرائيلى على قطاع غزة.

.. ومن منفاه ورغم تعليمات الفاتيكان مكث المطران كابوتشى أحد دعائم القضية الفلسطينية لتطير رسائله عبر وسائل الاتصال إلى دعاة الإنسانية فى العالم أجمع، والتى حملت توضيحات للممارسات والاعتداءات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى، والتى جمعها الكاتب الراحل محسن زايد ليضمها متن رواية فيلمه «المطران كابوتشي» فى عام 2002 الذى رُشح لبطولته النجم العالمى عمر الشريف لينتجه ويخرجه الراحل شهيد الإرهاب العقاد مصطفى العقاد ليتوقف المشروع لأسباب مجهولة، ويظل النجم الكبير يحلم لسنوات بالدور الإنسانى الذى لعبت فى مصيره الأيدى التى تستحق بترها من فوق خريطة القدس العربية.

من أقوال كابوتشى: «لم أزل حتى اللحظة مهما بعدت المسافات مطرانًا للقدس الشريف.. المطران ليس سيدًا، المطران هوالخادم. المطران أب، والأب عندما يرى ابنه معذبًا يهب لنجدته مهما يكن الثمن، مضحيًا بالغالى والنفيس لمساعدته.. المطران راع، والراعى عندما يلمح الذئب مقبلا يضحى بحياته من أجل واحد من رعيته.. منذ دخولى القدس فى عام 1965 والشعب الفلسطينى كله أبنائى. شعب مناضل رأيته بعينى رأسى يعانى جور الظلم والاحتلال والتعسف الإسرائيلي.. شعب حقوقه مهضومة، وأرضه منهوبة، وحريته سجينة، فكيف تريدون منى الوقوف مكتوف اليدين بينما ضميرى ودينى يفرضان على أن أهب لمساعدة الشعب الذى أنتمى إليه.. لم أزل رغم تقدمى فى السن فى انتظار نهاية لغربتى لعودتى إليه.. إلى شعبى.. إلى الجليل.. إلى الأرض المباركة.. إلى أرض الانتفاضة والجهاد المقدس، إلى كنيسة القيامة.. المثل العربى يقول (الغربة كربة، والهم فيها حتى الركبة)، وأنا أقول: لا ليس حتى الركبة وإنما حتى الرقبة، فعندما تعلم بوفاة إنسان فإن تعليقك أنه فارق الحياة، فما الموت إذن إلا فراق العزيز. العائلة. الأولاد. المال.. فهل أعز للأسقف مثلى من أبريشيته.. من شعبه.. من أرضه.. من قدسه؟! يا بلدى يا بلد السلام والزيتون.. إن هذا الفراق القسرى المفروض هو الموت المعنوي. يموت الإنسان مرة واحدة فقط جسديًا، ويموت مائة مرة فى اليوم معنوياً، وأنا أموت الميتتين فجسدى بعيد عن القدس. عن فلسطين وأبنائها.. أعيش من دون ذكرياتى، والذكريات تُولد الحنين، والحنين مبعث للعذاب.. يا قدس يا مدينة الصلاة.. القدس عروس عروبتكم»..

يرحل المطران كابوتشى فى أول يناير 2017 عن 95 عاما.. أى على حافة القرن الذى شاهد فوز ترامب، وأول الشهر الذى شاهد قهر القدس على يديه.. رجل كنيسة الروم الكاثوليك فى القدس، وتزغرد طوابع البريد فى الوطن العربى: فلسطين ومصر والسودان والعراق وليبيا بصورته، وطنيًا، عربياً، مستنفرا مسيحيى العالم للدفاع عن حرمات القدس المنتهكة.. عن مدينة البتول.. لينعاه كل فلسطينى أينما كان داخل المعتقل جارًا للمناضل مريد البرغوثى أو خارجه فى جميع الميادين العربية، حيث يعلو بصوت الرفض على ترامب الذى نقل سفارة بلاده إلى القدس.. القدس المحتلة ــ التى أعلنتها القمة الإسلامية العاجلة بالأمس باسطنبول ــ عاصمة لدولة فلسطين، واعتبرت أنه لم يعد من الممكن أن تكون الولايات المتحدة بـ«دونالد ترامب» وسيطا بين إسرائيل وفلسطين.. رحل المطران لتنعاه حكومة الوفاق الوطنى: ترك حزنا عميقا فى كل بلد فلسطينى للسيرة النضالية العطرة الحافلة بالمواقف الوطنية إلى جانب مكانته وسمو منزلته الدينية»، وفى مستشفى «كارول فوتيلوا» بروما حيث قضى المسيحى المناضل أنفاسه الأخيرة قالت مى كيلة سفيرة فلسطين بإيطاليا «بقلوب يعتصرها الحزن ننعى إلى شعبنا الفلسطينى وإلى الشعب السورى الشقيق وبلدته حلب وإلى كافة أحرار العالم وفاة المناضل القومى والعروبى نيافة المطران كابوتشى الذى سجل اسمه فى قائمة الشرف فى كافة المحافل التى تدافع عن حرية الشعوب وحقوق الإنسان»، وأذاعت حركة حماس فى بيان صحفى «أن المطران كابوتشى كرّس جزءا كبيرا من حياته للدفاع عن الشعب الفلسطينى وقضيته العادلة».. ويا آل إسرائيل.. لا يأخذكم الغرور.. عقارب الساعة إن توقفت.. لابد أن تدور، وحتما سوف يأتى من يقولون:

نأتى لكى نصحح التاريخ والأشياء

ونطمس الحروف فى الشوارع العبرية الأسماء

وإذا ما كان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قد قام بنسف فرص السلام بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل بنقل السفارة الأمريكية إليها، تلك الخطوة التى وعد بها رؤساء أمريكا السابقون، لكنهم أبدًا لم يقدموا عليها نظرًا لتبعاتها التى نراها الآن على الساحة العربية والدولية من رفض صارم وغضب عارم.. فقد كان هناك من رؤساء أمريكا من استطاع أن يقول «لا» لإسرائيل وعلى رأسهم الرئيس دوايت أيزنهاور (1890 ــ 1969) الذى أرسل إلى بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل مذكرة شديدة اللهجة عام 1957 يطالبها بضرورة انسحابها السريع من جميع الأراضى المصرية التى احتلتها عام 1956 خلال العدوان الثلاثي، وكان بن جوريون يتلكأ فى الانسحاب مُوجِهًا النيران تجاه جميع المبانى على طريق القرى الصغيرة بأبوعجيلة والقسيمة، وفى المنشآت العسكرية حول العريش، وبلغ عدد الرسائل النارية من ايزنهاور ثلاثا وبن جوريون لا يستجيب وإنما أخذ يحرك أصابعه المتآمرة داخل أمريكا ومبنى الكونجرس لكى يعدل الرئيس الأمريكى عن قراره، وفى هذا المجال قام إسرائيليو الكونجرس بجمع التوقيعات على مذكرة يطالبون فيها بتأييد موقف إسرائيل للبقاء على الأراضى المصرية، وقام بالتوقيع 41 من الجمهوريين و57 من أعضاء الحزب الديمقراطي، فذهب أيزنهاور إلى عقد اتفاق مع قيادات الكونجرس للوقوف إلى جانبه فخذلوا جميعهم الرئيس ليُصرح وزير خارجيته جون فوستر دالاس فى الدوائر الإعلامية بأنه قد أصبح من المستحيلات اتخاذ قرار يخص منطقة الشرق الأوسط دون الحصول مبدئياً على موافقة السفارة الإسرائيلية فى واشنطن، ويقرر أيزنهاور التصدى وحده لجميع من خذلوا موقفه، وبعيدًا عن أعضاء الكونجرس المنقادون، يقف فجأة أمام الكاميرات بلا موعد مسبق ليُعلن «إذا ما نحن نقوم بمسامحة أى دولة تهاجم دولة أخرى وتحتل أراضيها عنوة رافضة الانسحاب إلا بشروط مسبقة فمعنى ذلك تسليم منا بالموافقة على مبدأ العدوان والاغتصاب وشريعة الغاب، ولو تساهلنا مرة واحدة فى استخدام القوة أساسا لحل المنازعات نكون قد أهدرنا الآمال فى إقامة نظام عالمى عادل يعطى الحق لأصحابه».. وما أن ترك ايزنهاور منصة الخطابة حتى أرسل من جديد إلى بن جوريون تهديدًا بعقاب رادع يشمل قطع جميع المساعدات المالية الأمريكية التى كانت يومها قد بلغت 40 مليون دولار معفاة من الضرائب، إلى جانب 90 مليون دولار سنويا على هيئة سندات، وأمام منطق القوة والكبير كبير، انسحبت إسرائيل ليغدو المشهد العالمى بمثابة انتصار للعدل يكتب بحروف النصر للدبلوماسية الأمريكية.

هذا وقد همست دوائر المعلقين السياسيين ــ المغرضين ــ بأن تلك القوة الايزنهاورية قد اكتسبت قبسًا من نور ما قد جرى على أرض الشهامة والبطولة العربية عندما بدأ العدوان الثلاثى من اتصال الملك سعود هاتفيا بالرئيس عبدالناصر وكان قد أعلن التعبئة العامة فى المملكة ليقول له: «إن المملكة حكومة وشعبا جاهزة لتقدم كل ما تطلبه مصر» ثم ألحق الاتصال الهاتفى ببرقية قال فيها: «إننا وقواتنا وكل إمكاناتنا حاضرون للمقاومة لرد العدوان فعلى الباغى تدور الدوائر»، وفى خطوة لاحقة وجه الملك سعود بقطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع بريطانيا وفرنسا، ومنع الطائرات المدنية الفرنسية والبريطانية من الطيران فى الأجواء السعودية، مع إيقاف شحن النفط إلى الدولتين، وكان إيقاف ضخ النفط لمعامل التكرير فى البحرين التى كانت وقتها تحت الحماية البريطانية، أما بالنسبة إلى إسرائيل ثالث دول العدوان فإن المملكة هددت بتأميم حقول النفط الأمريكية، فى حال واصلت أمريكا دعمها اقتصاديا وعسكريا لإسرائيل!!

ومن الأسماء المضيئة على شاشة البيت الأبيض الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت (1882 ــ 1945) الذى وقف فى وجه الصهيونية الداعية لإقامة الدولة اليهودية، وفى فلسطين بالذات.. وذلك بمشروعه بتوطين اليهود فى دول العلام بوجه عام، أى أينما كانوا يحملون جنسية البلد الذى يعيشون تحت سمائه.. وحققت الصهيونية نجاحا كبيرا فى جمع توقيعات ثلث أعضاء الكونجرس إلى جانب توقيعات 1500 شخصية أمريكية أخرى على بيان يطالب بإنشاء جيش يهودى.. وفى أكتوبر 1943 نجح الضغط اليهودى المنظم فى جعل الكونجرس يصل إلى حد إصدار قرار رسمى بتأييد إقامة دولة يهودية فى فلسطين، لولا أن الجنرال جورج مارشال القائد العام للجيش الأمريكى، تدخل مطالباً بإيقاف القرار لأنه قد يؤثر على المجهود الحربى فى المنطقة العربية الحساسة.. وتترك مهمة إدارة الحركة الصهيونية إلى رجلها المحنك حاييم وايزيمان الذى قابل روزفلت للمرة الأولى عام 1940 ويومها حاول جس نبضه حول مطلب إقامة دولة يهودية فوجده من الساسة الدهاة واسعى الأفق، حيث رفض أن يقع فى شراك مصيدته، قائلا له إنه يعتقد أن أى حل لمشكلة فلسطين يجب أن تكون حلا عربيا يهوديا، وفى عام 1941 ذهب وايزمان للمرة الثانية إلى أمريكا ولكنه لم يتمكن من مقابلة روزفلت، فقابل وزير خارجيته «سمنر ويلز» الذى كانت الصهيوينة قد كسبته إلى جانبها بالفعل، فانضم إلى وايزمان فى محاولة للف على روزفلت.. وفى عام 1942 أرسل روزفلت إلى حاييم وايزمان يطلب منه القدوم للمساعدة فى الأبحاث العلمية لإنتاج المطاط الصناعى، فسافر ليمكث لمدة عام، وقبل عودته إلى لندن تمكن من مقابلة روزفلت مرة أخرى بحضور وزير خارجيته سمنرويلز، ليجده مازال مصممًا على أن أى حل يجب أن يتم بموافقة العرب واليهود معاً، فقال له وايزمان: «لو انتظرنا موافقة العرب فلن نصل إلى أى حل أبدًا»، وأكد له أن خير وسيلة هى أن تقف أمريكا وبريطانيا معا وراء إنشاء الدولة الصهيونية، فلا يجد العرب مفرًا من الرضوخ إزاء القوة الهائلة التى تواجههم.. وأضاف له: إن هذا هو ما حدث بالضبط يوم أصدرت بريطانيا وعد بلفور، ولم يقدر العرب وقتها على عمل أى شيء.

ولكن روزفلت لم يتزحزح.. كان يرى مصالح أمريكا البترولية البازغة فى الشرق العربى، وكان ذاهبا وقتها إلى رحلة يجتمع فيها مع الملك عبدالعزيز آل سعود.. فبدأت النقمة الصهيونية تتحول ضده.. أصبح روزفلت العدو الأول.. وفى 18 أغسطس 1943 بلغ الأمر تهديد روزفلت نفسه بعدما أعلن «ايمانويل سيلر» العضو اليهودى البارز فى الكونجرس أنه سيطالب بإجراء تحقيق فورى فى أسباب معارضة الخارجية الأمريكية لمطالب الصهيونية المشروعة.. وكان ذلك يمثل ضغطا غير مباشر على الرئيس الأمريكى روزفلت، عن طريق التلويح بإثارة تهمة معاداة السامية، التهمة التى ترفعها الصهيونية فى وجه كل من يجسر على الاختلاف مع مخططاتها الشيطانية.. ولكن روزفلت مات!!!

وجاء هارى ترومان (1884 ــ 1972) الذى سلم موافقته للصهيونية تسليم مفتاح لتضع يدها على البيت الأبيض، والرأى العام وعلى الكونجرس!!!

ويسعد الرئيس بيل كلينتون باتفاقية أوسلو 1993 بين إسرائيل والفلسطينيين، وتأتى اللحظة التى ينتظرها الجميع بإقامة مراسم تصديق كل من عرفات ورابين رسميا على الاتفاق فى حديقة البيت الأبيض، وقام كلينتون بالتوقيع بالأحرف الأولى كشاهد، وأصبح الأمر من بعد توقيع الاتفاقية يتطلب ترجمتها على أرض الواقع، إلا أن نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل كان مُصرًا على عدم تطبيقها وتحدى أمريكا ورئيسها مُصرحًا أمام الصحفيين: «واشنطن تلك سأحرقها لهم!!» وكان يعنى ما يقول إذ نشرت صحيفة «واشنطن بوست» فى الصباح التالى أن الرئيس الأمريكى على علاقة غرامية بموظفة مؤقتة ممن يتدربن فى البيت الأبيض! وفى الموعد المحدد فى المكتب البيضاوى دخل نتنياهو ولم تخرج أنباء من المتحدث الرسمى للبيت الأبيض حول ما جرى، ومثلها فعل ياسر عرفات، وضاعت أخبار اتفاقية أوسلو وتطبيقاتها فى خضم الفضيحة الكبرى حيث ظهرت جميع الصحف بعناوين ضخمة حول مونيكا لوينسكى وحكاية الكرافتة الحمراء التى أهدتها للرئيس فارتداها فى جولاته الميدانية، وقد ضم كتاب الصحفى جوردون توماس حول التاريخ السرى للموساد أن المخابرات الإسرائيلية قد قامت بتسجيل المحادثات التليفونية بين الرئيس والمرءوسة فى أنصاف الليالى لتستخدمها وقت الحاجة، وقد جاءت الحاجة الـمُلّحة عندما أراد نتنياهو حرق واشنطن بحاكمها!

ويبدأ تنفيذ مراحل المؤامرة على العالم العربى بأجمعه بدفع باراك أوباما للمجىء فى السنة الثانية من ولايته إلى مصر كبرى الدول العربية شعبا وكيانا ودورا ليُعلن فيها مشروع حل لأزمة فلسطين بقيام دولتين، فيلقى صدى جيدا فى العالم العربى والفلسطينى، ولا تمضى بضعة أشهر إلا ويأتى الحادى عشر من يناير 2010 بربيعه العربى لتصفع شرطية بائع خضار فى تونس لعدم تجديد رخصة عربته فيوقد فى ملابسه النار التى تودى بحياته لتشتعل الثورة التى تؤدى لفرار زين العابدين بن على رئيس الجمهورية،ومن تونس الشرارة إلى مصر ليتخلى حسنى مبارك عن منصبه ليوجه إليه الاتهام الذى يضعه خلف القضبان، ثم إلى ليبيا ليُقتل القذافى رئيس الجمهورية داخل ماسورة صرف صحى، ومنها إلى مظاهرة طلابية فى مدينة درعا تمتد إلى العاصمة دمشق لينتشر حريق الموعد المخطط له مسبقا وتم الترويج له عبر الفيس بوك إلى جميع مناطق سوريا وتسرى النار التى يزرعها الدواعش المرتزقون الجدد الذين يهبطون كالغربان السود تحت راياتهم السوداء على الأخضر واليابس فيحيلون مظاهر الحياة إلى موات ودمار.. باراك حسين أوباما الذى تمناها يومًا أن تكون دماؤه مصرية المنبت، وأن يكون سليل الفراعنة الأمجاد، وأن يكون منشأ قبيلته «لوو» على ضفاف النيل الخالد، وأن يكون جده قريبا ونسيبا للمصريين الفراعنة ذوى اللون البرونزى المشع والأبدان الرشيقة السامقة الذين يركبون فى اللوحة التاريخية ــ التى احتفظ بها جده ــ عربة ذهبية تجرها جيّاد مرمرية، ويشهرون سهامهم فى رحلة الصيد الملكية مجندلين الوحوش والسباع لتطأها العجلات.. وعلى هدى تلك الأمنية المستعرة فى الصدر انكب أوباما فى بداياته ــكما كتب فى مذكراته ــ على تاريخ الممالك الفرعونية العظيمة وأهراماتها وملكاتها نفرتيتى وكيلوباترا مهتديًا بمعلومات أمه «ستانلى آن دانهام» الأيرلندية الأصل، من أن قبيلة والده «لوو» كانت ضمن شعب نيلى هاجر إلى كينيا من موطنه الأصلى على ضفاف أطول أنهار الدنيا.. ويذهب باراك يحدوه الأمل فى رحلة البحث عن جذوره إلى المكتبة العامة فى مدينة هاواى آملا أن ينتهى نسبه إلى آمون رع بالذات، وبمساعدة أمين المكتبة العجوز صاحب الصوت المبحوح المتفهم لجدية الصغير فى بحثه الدءوب عثرا معًا على كتاب صغير عن شرق افريقيا، وللأسف لم يجد به ذكرًا للأهرامات أو مراكب الشمس أو توت عنخ آموت الذهبي، أو أى من المسلات الفرعونية، بل اقتصرت السطور على فقرة موجزة عن قبيلة «لوو» موضحة أن تعبير الشعوب النيلية ليس سوى مصطلح فضفاض يصف العديد من القبائل المتنقلة التى نشأت أصلا فى السودان على ضفاف النيل الأبيض فى أقاصى جنوب الإمبراطورية المصرية، وأن «لوو» على سبيل المثال كانت ترعى الماشية وتعيش فى أكواخ على هيئة أقماع من الطين بلا نوافذ، ويقتصر طعامها على الذرة وفصيل من البطاطا اسمها «اليام» وزيها التقليدى للجنسين مجرد شريط يغطى العورة يتدلى من حزام جلدى يحيط بالخصر، وأبدًا لم تركب «الوو» العربات الذهبية بجيادها المطهمة، ولا كانت يومًا من نسل فرعونى مصرى مجيد..

ومن هنا ترك أوباما محبطًا الكتاب المحبط وخرج مقطباً، ويبدو من يومها أن الإحباط قد زرع فى صدر أوباما شيئا ما ضد مصر بالذات ليُلازمه هذا الشعور طيلة رئاسته فى البيت الأبيض لينالنا منه ما تجاهلناه بصبر بالغ على أمل لم يتحقق فيمن أتانا من بعده!!

دونالد ترامب.. المتهور الذى لن يجديه النفخ فى أبواق الحروب الدينية التى تجاوزها العالم منذ عصر النهضة.. ترامب المتهور بشأن القدس الذى أذنب وشاركه فى ارتكاب الذنب بنيامين نتنياهو الذى ترفض سلوكه النخب الإسرائيلية ونُخب اليهود فى العالم.

ترامب.. الذى لم يحظ قراره بتأييد أحد سوى الفلبين، وعليه أن يعلم أنه لن يبقى لبلده صديق، خاصة أن دولا كبرى ومتوسطة تتهيأ للانقضاض على الدور الأمريكى المركزى العالمي، وفى صدارة الطابور المتحفز الصين وروسيا والاتحاد الأوروبى وأمريكا اللاتينية، وستلحق بها بالضرورة اليابان وكوريا والهند.. وبالأمس كانت الصلاة قائمة فى مسجد الروضة بعد تجديده ببئر العبد، حيث فجرت طلقات الإرهاب الغاشمة رءوس مئات الراكعين الساجدين، ذلك الحقد الدفين المستعر فى قلوب الإرهابيين ضد الركع السجود، وكان رأس الأفعى الإرهابى «باروخ جولد شتاين» المستوطن الإسرائيلى الذى وقف خلف أحد أعمدة الحرم الإبراهيمى بالقدس، وانتظر حتى سجد المصلون وفتح نيرانه عليهم وهم سجود، فاخترقت الشظايا الرءوس والرقاب والظهور... ويظل الأقصى وكنيسة المهد أكثر استهدافا من بعد القرار المتهور المشئوم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف