المساء
محمد جبريل
من المحرر - الحكايات العجيبة
تنتسب حكايات منير عتيبة العجيبة إلي الرواية بأكثر من انتسابها إلي المجموعة القصصية. وهي التسمية التي اختارها للغلاف.
المكان- في عمومه- عزبة خورشيد القريبة من الإسكندرية. مزاوجة بين القرية والمدينة. والشخصيات من البيئة نفسها. الراوي. وهو- كما يرسم ملامحه الجوانية- أقرب إلي الشباب. وربما إلي الصبا. فهو يتحدث عن الجدة التي ينقل حكاياتها. والجدة تمتلك حصيلة وافرة من موروث المعتقدات الشعبية والعادات والتقاليد. وثمة المفردات التي تمثل فسيفساء المشهد الروائي: الترعة. السكة الزراعية. شجرة التوت. شجرة الجميز "لها تأثيرها السحري منذ الحرام ليوسف إدريس" الحواديت. العفاريت. المردة. الغيلان. الثعابين. مخاطبة أرواح الموتي. أسرار الخلود. مكاشفات أولياء الله وبركاتهم. النداهة. القرين. البشر الذي يتحول حيواناً. آيات القرآن الطاردة لأذي الكائنات الشريرة. الموسيقي الغائبة المصدر. النباتات البرية والأعشاب والرقي والأحجبة والطلاسم والتعاويذ وأنفاس الحشيش. والأحلام. والكوابيس. الانتظار. الخوف. وغيرها من المفردات التي تشكل فسيفساؤها مشهداً روائياً. قوامه الواقعية الروحية.
أذكر أني وجدت في الواقعية الصوفية تعبيراً متماهياً. أو موازياً للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات جارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي ويوسا وغيرهم من مبدعي أمريكا اللاتينية. وجدت في الواقعية الصوفية معني أشد عمقاً للإبداعات التي تستند إلي الموروث الشعبي. بداية بالميتافيزيقا. وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلي الصوفية. ثم بدت لي تسمية الواقعية الروحية أقرب إلي الدقة. بل هي- في قناعتي- صحيحة تماماً. الواقعية الصوفية تحصر الجو الإبداعي في الممارسات الصوفية وحدها. في مكاشفات أولياء الله وكراماتهم. ما ينسب إلي السيد البدوي وأبي العباس والشافعي والرفاعي والشاذلي والحجاجي وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات. وما ينسب إلي الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس. أما الروحية فهي تهب دلالة أكثر رحابة. وأشد تحديداً في الوقت نفسه. مكاشفات وبركات الصوفية تتماهي مع بنية الواقعية السحرية. وتوظيف الفن للبعد الصوفي ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات. لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها.
لكن بعض دارسي الواقعية السحرية يرفضون أن تجد تماهياً. أو حتي متشابهة. مع الموروث الديني أو الشعبي. بعيداً عن الإنثربولوجيا علي المستوي الإنساني. وثمة النظرة إلي الموت والموتي. إنها تكوين مهم في موروثنا الشعبي بكل ما يحفل به من معتقدات وممارسات وعادات وتقاليد. نحن نؤمن بالخلود. وأن الموت انتقال من حال إلي حال. لذلك يأتي انشغالنا ببيت الآخرة. مقابلاً لإهمال بيت الدنيا. تدلنا الحفائر
والتنقيبات علي آثار تتصل بالعالم الآخر: الأهرامات. مصاطب المقابر. الأجساد المنحطة. الأوشابتي. إلخ. لكننا لا نجد أي أثر لبيت الدنيا. البيوت التي كان يعيش فيها قدامي المصريين.
وبالطبع فإننا نؤمن أن الصلة بموتانا. أو صلتهم بنا. لا تنقطع. إن لم نرهم رؤية العين. فإنهم يزوروننا في الأحلام. أو ما يشبهها. ويحرصون علي متابعة أحوالنا. ويشعرون لتلك الأحوال بالقلق والخوف والفرح والحزن. وهم في دار الحق. بينما نحن في دار الباطل.
باختصار. فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلي الضفة الأخري. أو تحاول أن تنتقل إليها.
يبقي أن الرؤي في مجموعة منير عتيبة القصصية. أو روايته. ليست ثابتة. ليست المفردات المتوارثة. ولا النقلية التي تقتصر علي الأخذ من السلف. الحفيد- ولعله الراوي- ينظر من فوق السطح إلي سماء خورشيد. هي السماء نفسها التي اعتاد رؤيتها منذ بداية وعيه. خورشيد المدينة- القرية لم تعد هي. ولا أهلها علي يقينهم المتوارث. فالزرائب تختفي. والمساحات الخضراء تتقلص. والشوارع تشق القرية إلي حيث يختلط ناسها بالدنيا من حولهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف