المساء
خيرية البشلاوى
رنات - مريم والشمس
العنوان أعلاه يشير إلي فيلم يُعتبر مثالاً جيداً للإمكانيات التي يستطيعها وسيط الفيلم في مجال التوعية المجتمعية ودعم جهود التنوير في مجتمع مازالت نسبة كبيرة من سكانه تعتبر المرأة مخلوقاً من الدرجة الثانية والتعليم بالنسبة لها ترفاً لا تُقره التقاليد ومن ثم يمارس أقصي أنواع العنف المعنوي من أجل الحيلولة دون استمرارها في المدرسة بدعوي أنها خُلقت للبيت والانجاب وخدمة الزوج!
الفيلم تدور أحداثه في قرية من قري الصعيد. ويختار "مريم" ومجموعة من التلاميذ في مدرسة من تلك المدارس المجتمعية التي أقيمت لتسهيل عملية التعليم وتمكين الأهالي في القري النائية من تعليم صغارهم.
الصبية مريم وشقيقها طارق الذي يصغرها أبناء لفلاح يزرع الأرض ويؤمن مثل أبناء قريته بعدم تعليم الإناث ويقف دون إتمام دراسة "مريم" في مدرسة القرية. وبرغم الظروف والتقاليد تتمكن مريم من مواصلة تعليمها بفضل تفهم المدُرسة "كريمة" وتعاطفها وإصرارها علي مساعدة الصبية.. وبالفعل تواصل مريم حتي تصبح هي نفسها "مدرسة" تؤدي نفس الدور الذي لعبته مدرستها "كريمة".
الفيلم قصير من النوع التسجيلي يعتمد علي معطيات الواقع ويتم تصوير أحداثه في القرية ووسط الأرض الزراعية ومع تلاميذ المدرسة وبالأجواء البسيطة التي تشيعها المفردات المرئية للمكان وللشخصيات والأحداث البسيطة جداً.. إنه عمل يخلو من أي عنصر احترافي فيما عدا شخصية "كريمة" والأب "خليل" وبالطبع طاقم الانتاج.
وما يلفت النظر أنه فيلم ناعم وقريب من القلب عكس القضية التي يتناولها وهي تحديداً قضية حرمان الإناث من التعليم بسبب تعنت الأب والمفاهيم الحاكمة منذ قديم الزمان في الصعيد وغيره في مصر.
و"النعومة" التي أعنيها توحي بها لغة الفيلم السلسة المعتمدة علي مفردات بصرية يحتل المنظر الطبيعي الريفي المألوف. المركز في كل المشاهد تقريباً بالإضافة إلي العنصر البشري الخام والبريء من تلاميذ القرية التي لا نري منها سوي تفاصيل محدودة.. ولكننا نتابع أحلام هؤلاء الصغار وانطلاقهم وعلاقتهم مع المُدرسة. التي تمثل بدورها نموذجاً غير متوفر بالقدر الذي نحتاجه. وأعني الإخلاص الشديد لدورها كمعلمة ومربية وإيمانها بأن هؤلاء الأطفال هم من سوف يشكلون المستقبل.
فإلي جانب المرونة والتلقائية التي التقطها المصور ومخرج الفيلم "أنسي طلبة" في تصويره للتلاميذ وحركتهم ولعبهم وولعهم بالتعليم هناك أيضاً اللهجة الخاصة والكلمات البسيطة التي وضعها السيناريست عمر داوود علي السنة الشخصيات أضف إلي ذلك عنصر المصداقية الأمر الذي يترك تأثيره علي كل من يشاهد الفيلم.
ــ هل الفيلم تربوي؟؟ نعم. هل هو تعليمي؟؟ أكيد وهل يصل بالرسالة إلي من يهمهم الأمر؟؟ هذا هو دور المؤسسات المنوط بها عرضه وإلقاء الضوء عليه وهو بالمناسبة موجود علي وسائل التواصل الاجتماعية. ويمكن عرضه في التليفزيون حتي تعم فائدته.
إن الفيلم الموجه ينبغي أن يكون مقنعاً ومسلياً أيضاً وجاذباً حتي بالنسبة للمتفرج غير المهموم بالقضية التي يطرحها.
وإلي جانب المحور الرئيسي في مادة الفيلم الموضوعية هناك التشخيص البعيد عن النمطية لشخصية الأب الصعيدي. وأيضاً الأم التي ظهرت في مشهد واحد. والفيلم رغم أنه يعالج قضية العنف المعنوي ضد الإناث لكنه لم يغفل الظلم الذي يمكن أن يعاني منه الذكور أيضاً "مريم" وشقيقها "طارق" الاثنان حرما من التعليم بشكل أو آخر وإن استطاعت مريم أن تتجاوز ذلك. فلم تعرف مصير "طارق".. لأن الهم الرئيسي في الفيلم "الأنثي" وليس "الذكر" وهو أمر طبيعي في فيلم تساهم في توجيهه وانتاجه المركز القومي للمرأة علماً بأن المرأة لن تتحرر ولن تنل حقوقها إلا بتحرير الرجل وإنارة تفكيره.
ويلفت النظر في هذه التجربة.. القصيرة البسيطة روح السماحة التي عرفناها قديماً في مصر والتي تراجعت أو غابت مع ظهور التيار الإسلامي المتأسلم التي بدأت رياحه تلفحنا مع السبعينيات ومع أفواج النازحين من وإلي دول الخليج وما جرته رياح "الوهابية" علي أدمغة النساء والرجال. ثم ما آل إليه هذا التيار من عنف وثقافة معادية للاستنارة والتقدم.
"مريم والشمس" شريط يثير ضمنياً فكرة مؤرقه ومؤلمة لأن مصر لن تكن مؤهلة لهذه المعاناة الفكرية والاجتماعية ولكن الحكومات والأنظمة التي تسلطت علي مقدرات هذا الشعب أجفلت أهمية التعليم وتركت "المىعلم" حسب الريح دون اعداد وبما يمليه ضميره أو ما يمكن أن يعُطيه لتلاميذه وهو نفسه الفاقد لأي قدرة علي العطاء إلا بشروط.
لم تكن مصر بحاجة إلي تعليم جيد لأنه كان متوفراً ولأن الأجيال الكبيرة تعلمت في مدارس محترمة وعلي ايدي مدرسين من نوعية "كريمة" فخرج عشرات العلماء والنخباء. ولو سارت الأمور سيرها الطبيعي إذن لما وصلت نسبة الأمية إلي هذه الحدود. ولما كانت الأنثي سجينة حتي القرن الحادي والعشرين في زنانين الأفكار الرجعية والمفاهيم المتخلفة التي مازالت تسيطر علي نسبة ليست قليلة من أولي الأمور داخل المنازل والمؤسسات.
"العلم مش بالفلوس" هذا هو منطق المدُرسة "كريمة" مُعلمة "مريم" التي تطوعت للتدريس دون مقابل لمريم وشقيقها وابتكرت طريقة لايصال الدروس إلي مريم حين اضطرت للرضوخ إلي رغبة الأب عبر خطابات تصل إليها عن طريق زميلتها في المدرسة حتي وصلت مريم إلي ما أصبحت عليه.
ففي هذه المساحة الزمنية القليلة وفي إطار عمل فني جيد وبسيط قدم الفيلم سيرة حياة "مريم" الصبية الصعيدية فيما يشبه "الكبسولة".. والواقع أننا نحتاج إلي عشرات من هذه التجارب التي من شأنها أن تغير الثقافة التي تحول دون تقدم "الأنثي" ومن ثم تقدم المجتمع ككل.
"مريم والشمس" فيلم قام بإنتاجه مشكوراً شركة "اكسير" وتم انجازه بإشراف المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة وبدعم من سفارة اليابان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف