يسرى عبد الله
وديع فلسطين والاعتداء على الذاكرة الجمعية
لم يكن الاعتداء الذى تعرض له وديع فلسطين الكاتب والصحفى والمؤرخ واللغوى المصرى المدقق الذى كان عضوا فى مجمعى اللغة العربية فى دمشق وعمّان، محض اعتداء عابر، فالملثمون الذين اقتحموا بيته لم يسرقوا مالا بحسب مديرة منزله، وإنما سرقوا أوراقا تخصه. وتستمد الواقعة المخزية أهميتها من أمرين، يتعلق أولهما بالقيمة الفكرية والصحفية التى يمثلها الرجل، وثانيهما فى كون حادثة الاعتداء تأتى عقب تداول أخبار تتصل برغبته فى إصدار مؤلف يختص بنظرته لجماعة الإخوان ولقائه مع مؤسسها حسن البنا، بعنوان «إخوان الشياطين» بحسب ما صرح به تلميذه وصديقه الكاتب لويس جريس.
وقد كان لوديع فلسطين منذ أيام قليلة آراء شديدة الأهمية عن الفترة التى حكم فيها الإخوان مصر، فى حوار مميز للغاية نشرته «الأهرام» وبدا فيه وديع مطوفا فى حديثه عن هذه الجماعة المتطرفة، التى كان وجودها فى سدة الحكم ضد حركة المنطق والتاريخ. وربما تعيد الواقعة إلى الأذهان التهديدات التى تواترت من قبل لعدد من الكتاب والإعلاميين على لسان الجماعة وشيوخها، وربما حمل البيان الشهير الذى حمل عنوان «نداء الكنانة» ولم يكن سوى نداء للقتل فى الحقيقة، والصادر عما يسمى بالاتحاد العالمى لعلماء المسلمين والذى يتزعمه الشيخ القرضاوي، وبعض أعضائه مازالوا موضوعين على قوائم الإرهاب، تعبيرا عن تصورات دموية، فهذا البيان الذى صدر منذ سنتين ونصف تقريبا كان يضع كل معارضى الجماعة الإرهابية فى خندق التصفية المعنوية والجسدية، وحدد فئات نوعية من بينها القضاة والضباط والإعلاميون، وغيرهم، وهذا التغول على حق الإنسان فى الحياة وفى الاعتقاد بما يريده، ومناصرة من يريد، والإيمان بما يعتقده، يعد أمرا شديد الخطورة يشير إلى جماعة فاشية بامتياز، تعتقد فى قدرتها على تكميم الأفواه ومصادرة من يختلف معها. هذه حالة من شرعنة القتل إذن تنتهجها الجماعة متكئة على جملة من الفتاوى الباطلة التى تفتقد للعقل والرشد والإنسانية أيضا. إن مخططى ومنفذى الاعتداء الغاشم على وديع فلسطين أيا من كانوا هم جزء من حلقة الجهل المقدس التى تتسع بفعل تحالفات الفساد والرجعية من جهة، وادعاء الحقيقة وامتلاكها المطلق من جهة ثانية.
يبدو وديع فلسطين جزءا من الذاكرة الجمعية للأمة المصرية، فالرجل الذى قضى ردحا من عمره بعيدا عن الصخب الإعلامى ظل يعمل فى صمت، وقد أنجز نحو أربعين كتابا فى صنوف شتى من المعرفة، ولعل الأسلوب البلاغى الذى اتسمت به مقالاته فى صحيفتى المقتطف والمقطم اللتين أثمر فيهما كتابة مغايرة ومختلفة ينبئ عن كاتب حقيقى يملك بصمة أسلوبية تخصه وولعا بلغتنا العربية التى تتسع لجدل خلاق بين الحقيقة والمجاز. ويعد فلسطين المولود فى مركز أخميم بسوهاج من العارفين الحقيقيين بالجدل بين الصحفى والثقافي، ومن أبرز كتبه نجد كتابيه: «قضايا الفكر فى الأدب المعاصر» و«مختارات من الشعر المعاصر». وبدت الرحلة الصحفية لوديع فلسطين شهادة بالغة التنوع على عصر بأكمله وحقب متعددة، ومن ثم يأتى كتابه الشهير «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره» بمثابة عين الكاميرا التى تصحبنا لاستقراء المشهد المصرى بتنويعاته السياسية والثقافية، وكان الحضور الواعد لأسماء مهمة فى بنية الثقافة المصرية لافتا للغاية، حيث تلقانا فى هذا الكتاب أسماء مهمة، رتبها الكاتب وديع فلسطين ترتيبا ألفبائيا، فيبدأ من إبراهيم عبدالقادر المازنى وصولا إلى يوسف جوهر، وبينهما كثير من المثقفين، حيث نجد مثلا: طه حسين، والعقاد، ومحمد مندور، ونجيب محفوظ، وإبراهيم ناجي، وخليل مطران، وغيرهم.
وتكمن قيمة وديع فلسطين فى كونه حاملا لجانب معتبر من إرث الأمة المصرية، ولا ينفصل الاعتداء عليه عن الاعتداء السافر الذى تعرض له من قبل الأديب المصرى العالمى الفذ نجيب محفوظ والذى سئل من حاول قتله، لماذا حاولت اغتياله؟ فرد بسبب روايته أولاد حارتنا، فقيل له: هل قرأتها؟ فأجاب: لا! ثم أردف بالجملة المتكررة فى مثل هذه الأحداث العدوانية. . سمعت أنه كافر.!! إن ملاحقة رموز الاستنارة فى واقعنا المصرى والعربى أضحت ظاهرة يجب التوقف أمامها طويلا، فالمصادرة والرغبة فى عدم سماع الرأى المخالف يحركان قطعانا من البشر تخلوا عن عقلهم مثلما تخلوا عن إنسانيتهم أيضا. إن معاصرة وديع فلسطين لجملة من الأحداث والوقائع المصرية المعاصرة بدت مقلقة للبعض فيما يبدو، وبدا الاعتداء عليه اعتداء على التاريخ الحى وعلى الذاكرة المتجددة للأمة المصرية بتفاعلاتها التى لا تنتهى وحيويتها التى لا تنضب.
وبعد.. سيكون من الضرورى للغاية أن تلتفت المؤسسة الثقافية إلى قيمة وديع فلسطين وغيره ومن رموز التنوير الذين أثروا حياتنا الفكرية، ولا أعنى التكريم الكلاسيكى المعتاد، ولكن أعنى إعادة الاعتبار لهم وإعادة طبع أعمالهم المهمة حتى تتسنى للأجيال الجديدة معرفتها والإفادة منها.