د . انور مغيث
البنوك والتغيرات المناخية!
قرار آخر من قرارات دونالد ترامب الخرقاء، هو قرار انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس لمواجهة التغيرات المناخية. والغريب أن القرار يأتى بعد مسار استمر عقودا طويلة لكى يعى البشر بمخاطر الأزمة البيئية. كان الإنسان على مدى التاريخ سعيداً بإنجازاته، ويتصور أنه يتقدم باستمرار تجاه حياة أكثر راحة ورفاهية. بدأ بعض ذوى البصيرة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر يحذرون من اجتثاث الغابات وتحويلها لحقول ومصانع، ويرون فى ذلك خطرا على مستقبل الإنسان. كما التفت آخرون فى النصف الأول من القرن العشرين وبعد انتشار الصناعة فى أرجاء العالم إلى أن الوقود الحفرى، أى الفحم والبترول، ذو كمية محدوددة وسينفد يوماً ما. وفى النصف الثانى من القرن العشرين بدأ الانتباه إلى أثر تزايد بث ثانى أكسيد الكربون فى إحداث ظاهرة الاحتباس الحرارى وما سيترتب عليه من تغيرات مناخية سوف تعصف بالإنسان، بل وبالحياة نفسها.
اجتهد العلماء فى بيان المظاهر المختلفة لأزمة البيئة، فسمعنا عن المطر الحمضى وثقب الأوزون والتصحر، وسمعنا عن الزيادة السكانية وأثرها فى تآكل الأرض الزراعية، وتضاعف حجم النفايات والاستهلاك المتسارع للثروات المعدنية، بالإضافة إلى تلوث الماء والهواء وما يعنيه ذلك من ظلم يقع فى حق الأجيال المقبلة وفرصها فى العيش. كان مؤتمر استكهولم عام 1973 هو بداية الاهتمام السياسى الدولى بأزمة البيئة، ثم كان مؤتمر ريو تعبيرا عن وصول هذا الوعى السياسى الدولى إلى مستوى الاجماع. هذه المؤتمرات كانت دائما محط اهتمام من ملوك ورؤساء الدول طالما وقفت عند حدود اعلان المبادئ والنوايا والتوصيات، ولكنها كانت دائما تنكسر عندما تحاول اتخاذ قرارات ملزمة. ويمكننا أن نتذكر منذ عشرين عاما انسحاب جورج دبليو بوش من اتفاقية كيوتو. ولهذا نفهم السبب فى حالة الاحباط العامة التى نجمت عن قرار ترامب بالانسحاب. فكلما لاحت فى الأفق مؤشرات تبين أن قادة العالم بصدد الوصول إلى اتفاق قد يكون خطوة عملية جادة فى طريق إنقاذ الكوكب تأتى هذه المواقف لتجعل الأمل يتبخر. والسبب فى أن الساسة عاجزون عن اتخاذ خطوة عملية ملزمة، هو أن أزمة البيئة قد تفاقمت وزاد الوعى بها فى الوقت الذى اشتدت فيه الدعاية لليبرالية الجديدة ومحاولة فرضها، من خلال اتفاقيات التجارة، كنظام اقتصادى للعالم أجمع. وهى تقوم على تشجيع النزعة الاستهلاكية بلا جامح، وتحويل القطاعات غبر السلعية فى الحياة إلى قطاعات سلعية وتسعى إلى تعظيم دور رأس المال المالى أى زيادة سلطة البنوك. باختصار جعلت المال يقود السياسة، وكان هذا هو السبب فى عدم تمكن الساسة من الوصول إلى قرارات ملزمة.
كانت مبادرة الرئيس الفرنسى ماكرون إلى عقد قمة عالمية استثنائية لمواجهة التغيرات المناخية فى باريس والتى حضرها ممثلو أكثر من 140 دولة محاولة للخروج من هذا المأزق. والرئيس ماكرون قادم من بنك روتشيلد ومن أنصار الليبرالية الجديدة. ومع ذلك فالمؤتمر الذى دعا إليه يمثل ردا سياسيا حازما على قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس. كما أنه يحتفظ لفرنسا بموقع القيادة الدولية فى مجال الدبلوماسية البيئية. ولكن الجديد أنه يمثل محاولة للخروج من منطق القرارات الملزمة إلى منطق المصلحة، أى الانتقال من الاعتماد على الدول إلى الاعتماد على البنوك. يقوم المؤتمر على الترويج لفكرة أن الاستثمار فى مجال البيئة سوف يكون مصدرا لجنى الأرباح. ودليل على ذلك الطفرة الكبيرة التى حققها تصنيع السيارات الكهربائية والأرباح الهائلة المتوقع أن تحصل عليها البنوك التى استثمرت فى هذا المجال. كما أعلن البنك الدولى أنه سوف يقوم بتمويل أبحاث الطاقة البديلة، وسوف يتوقف من الآن فصاعدا عن تمويل البحث عن البترول. وهكذا من المتوقع أن تتخلى الصناعة عن الطاقة البترولية شيئا فشيئا، وأن نكف عن استخدام البترول وهو موجود ولا ننتظر حتى ينفد. وهذا المنطق نفسه سوف يمتد إلى باقى القطاعات الأخرى من خلال تحويلها لمناطق جذب للاستثمارات البنكية. وبهذا يحقق البنك هدفا مزدوجا، وهو تحقيق الأرباح إلى جانب تكريس صورة ايجابية عن البنك لدى زبائنه. السؤال الآن ما المدى الذى يمكن تحقيقه فى مجال حماية البيئة إذا ما اعتمدنا على البنوك، مع الأخذ فى الاعتبار أن البنوك تقوم من حيث جوهرها على تشجيع الجمهور على الاستهلاك؟ ثم هل يمكن الاستغناء عن دور الدول، يمعنى آخر هل يمكن أن نستغنى عن إصدار القوانين؟ وأخيراً ألا يعنى الاعتماد على البنوك أننا نقع فى المفارقة التى أشار إليها الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر، وهى أننا ننتظر من التكنولوجيا أن تخرجنا من الورطة التى أوقعتنا فيها التكنولوجيا؟