فى أحد أيام صيف يونيو عام 2012؛ فى بلدة تشارلوتسفيل «نصف الريفية» بولاية فرجينيا الأمريكية، وبينما أنهى الطلاب عامهم الدراسى، ويستعدون للتوجه إلى شاطئ المحيط للاستمتاع بأجواء الصيف، وفق ما اعتاد شباب الساحل الشرقى الأمريكى فعله؛ وقعت هذه الواقعة.
تقدمت طالبة ببلاغ رسمى ضد زميلة لها، اتهمتها فيه بأنها أقدمت على «عضّها» خلال اشتراكهما فى لعب مباراة مهمة فى كرة القدم بين فريقى مدرستيهما فى بطولة المدارس الثانوية. أكد الاتهام والد صاحبة البلاغ الذى يعمل وكيل مدرسة فى البلدة الصغيرة، لذا فهو يحظى بنفوذ كبير، رغم أنه لا أحد فى الملعب تقريبا شاهد هذه «العضّة»!. أعدت النيابة مذكرة اعتقال ضد المتهمة، المحبوبة جماهيريا، وتوالت التداعيات: محاكمة أمام القضاء، آلام وبكاء، أسرة تتمزق، مستقبل فتاة يكاد يضيع، اشتباكات لفظية بين جماهير فريقى المدرستين من الشباب، ومجتمع صغير يوشك على التداعى. لماذا؟. ستجد - بالوقائع- فى خلفيات الإجابة عن السؤال كلمات مثل؛ فساد، واستغلال نفوذ، فضلا عن غوص عميق فى نفسية الأب (وكيل المدرسة) الذى يحاول تعويض فشله فى حياته، عبر دفع ابنته للنجاح والبطولة بأي وسيلة، حتى ولو بتدمير حياة زميلتها، بالكذب!.
هل تجذبك قصة كهذه لقراءتها؟. هى على كل حال جذبت الصحفى الأمريكى جوناثان كولمان لكتابتها، فعمل عليها ثلاث سنوات كاملة، والتقى كل من كانت له علاقة ليس فقط بالواقعة؛ بل بتاريخ وحياة أبطالها!. ثم أصدر كل ذلك فى كتاب، تشعر عندما تقرؤه بأنك تقرأ رواية صغيرة، لكن كل أحداثها حقيقية، لا ذرة خيال بها. صحافة هذه أم أدب؟. لك أن تتساءل بالطبع. والإجابة: إنها ذلك النوع من الصحافة، الذى يسمى «الصحافة الأدبية». وأحب أن أسميه «الصحافة القصصية»، بينما سمّاه الصديق الإذاعى الأديب علاء أبوزيد «القصة الصحفية».
أيا ما كان المصطلح؛ فإن كتاب - أو رواية- جوناثان كولمان، ترجمه مؤخرا - تحت اسم «العضّة»- البرنامج المصرى لتطوير الإعلام، الذى يحمل على عاتقه (رسالة) الترويج لهذا النوع من الكتابة فى صحفنا، ويرى القائمون على البرنامج؛ الأصدقاء المقاتلون، طارق عطية وطارق سعيد وإيهاب عبد الحميد وخالد البرماوى وأحمد منتصر وزملاءهم، أن التحول إلى هذا النمط فى صحافتنا هو طوق النجاة للصحف الورقية، فى ظل أزمتها (الكبرى) الراهنة، فى عصر الصحافة الرقمية والمواقع الإلكترونية.
هل يمكن أن نكتب بهذه الطريقة القصصية فى صحافتنا الورقية بمصر؟. هل يمكننا تطوير المحتوى؟. هل يمكن أن نتجه إلى الكتابة الأكثر عمقا وإمتاعا وربحية أيضا؟. هل يمكن أن تتجه صحافتنا إلى إعلاء شأن كتابة التحليل والتعليق والقصة الصحفية أم أننا سنظل أسرى تكرار كتابة الخبر الصحفى بعد أن تكون كل مواقع الدنيا قد نشرته بـ 12 ساعة على الأقل؟. أسئلة وأسئلة تتفرّع كلها من سؤال رئيسى هو: هل يمكننا - بأسلوبنا الحالى- أن نبقى ونستمر؟!. لسنا نسيجا وحدنا فى مصر. الأسئلة أجاب عنها - فى شتى بقاع العالم- آخرون، كثيرون، سبقونا فى التفكير، ويبقى فقط أن نتحرك.
يورج رومر المحرر العلمي لمجلة «ديرشبيجل» الألمانية الشهيرة زار «الأهرام» ونقابة الصحفيين مؤخرا، بتنسيق وجهد الصديق أشرف أمين المحرر العلمى لـ «الأهرام». تحدث فى المسألة، فقال إنه يتم عقد اجتماع أسبوعى للتنسيق بين المحتوى الورقى والإلكترونى، وبحث الموضوعات التى تصلح هنا وهناك، علما بأن مادة النسخة الورقية لا تتاح على الموقع الإلكترونى إلا بمقابل مادى. وهى تركز على القصص الصحفية الطويلة والتحليلات العميقة والتحقيقات الاستقصائية. ويبقى أن تعرف أن المجلة تطبع حاليا 800 ألف نسخة أسبوعيا، وتملكها شركة تسعى للربح أصلا، لكن الشركة لم تغلقها، بل طورتها.
ومن ألمانيا إلى كوريا الجنوبية، فوفقا لتقرير الزميل زكريا عثمان فى «الأهرام» يوم 15 نوفمبر؛ أشارت الإحصاءات إلى انخفاض توزيع الصحف من 82% عام 2011 إلى 20% فقط فى 2016، فماذا كان العمل؟. وضعت هيئة الصحافة الكورية استراتيجية من 7 بنود، أولها حتمية التركيز على كتابة الموضوعات التحليلية والقصص الخبرية الأكثر عمقا بدلا من الاقتصار على نشر الأخبار العادية التي تحظى فيها الصحافة الرقمية بميزة أسبقية النشر دائما، وكانت صحيفة «تشوسون إلبو» من أكبر المستفيدين من تنفيذ الاستراتيجية، حيث وصل توزيعها إلى مليون ونصف المليون نسخة يوميا!.
أخيرا.. تبقى الإشارة إلى تصريح مهم للأستاذ عبدالمحسن سلامة نقيب الصحفيين، دعا فيه إلى «ثورة حقيقية» لتطوير محتوى الصحف. والحق أنها دعوة مهمة، ليتنا نبنى عليها، بإجراءات وخطوات، فالوقت لا ينتظر، حتى نستمر. إما أن نبقى أو نختفى. متى ننتبه؟. متى نستيقظ؟. هذه تساؤلات مخلصة، مهما بدت مؤلمة، «فالعضّة»، قد تؤلم حقا، لكنها توقظ أيضا.