الأهرام
عماد رحيم
تحرير العقول (1)
تموج الحياة بأحداثها المتلاحقة، لا تتوقف ولا تنتظر، وفى رحاياها، تنجلى أمور كثيرة، جزء منها يتعلق بكيفية التعامل معها، وآخر خاص بموروثات تكونت عبر حقب زمنية مختلفة، كانت كفيلة بتشكيل وعى الناس، بل إن منها ما أصبح ثابتاً لا يجوز الاقتراب منه.

إلا أن هناك من يصنع الفارق، بقدرته على التطوير بجهد، يقود لمواكبة التقدم المطرد، الذى يسير بسرعة فائقة، تزداد وتيرتها يوما بعد يوم، وفى المقابل، هناك من يستكين للواقع، مكتفياً بالمشاهدة، ساكناً، منتظراً ما تسفر عنه الأحداث، إذ ربما تأتيه الرياح بما تشتهى السفن!

المقارنة بين النقيضين مطلوبة، لإظهار القدرة على تحقيق النمو، رغم الصعوبات المعرقلة لإنجازه، ومع ذلك التركيز على نموذجين كمثلين، يمكن أن يسلط الضوء على الفارق.

ظل الحديث عن الزيادة السكانية فى بلدنا، قاسماً مشتركا لكل أزماتها، منذ منتصف القرن الماضى، ومع التسليم بأن تلك الزيادة، تعتبر المعول الأساسى المعترض لتحقيق النمو، إلا أننا حتى اليوم، لم ننظر لهذه المشكلة بشكل إيجابى، رغم أن الصين صاحبة أكبر تعداد سكانى فى العالم، كانت لها نظرة مختلفة مكنتها الوصول للمرتبة الاقتصادية الثالثة، وقريبا تتبوأ الأولى.

نعم نعانى أزمة اقتصادية خانقة، سببها الرئيسى، عددنا السكانى الكبير، مقارنة بحجم الدخل، إلا أننا بدأنا التعامل معها، بطريقة مختلفة، طريقة وضعتنا على أعتاب بدايات مغايرة لتاريخ طويل من الإهمال واللامبالاة، حين تم التفكير فى زراعة المليون ونصف المليون فدان، مشروع ضخم يحتاج إلى عمالة كثيفة، وبما أننا بلد يشقه النيل من جنوبه لشماله، الزراعة حرفة أساسية لناسه، يأتى التعامل المسئول مع هذا المشروع العملاق، الذى يستلزم توفير كل السبل للعمل على نجاحه.

خطوة مهمة فى طريق طويل، جاءت بعد فترة طويلة من الركود، حتى خيل لنا أننا أصبنا بالتيبس، ولم نعد قادرين على الحركة!

خطوة واكبتها خطوات أخرى، متمثلة، فى تخصيص مبلغ 200 مليار جنيه لدعم الصناعات الصغيرة والمتناهية الصغر، مبلغ مالى ضخم، ونحن نقترب من مرور عامين على اتخاذها، يبدو السؤال القادم منطقياً.ماذا تم حتى الآن؟

قبل الإجابة، لابد من توضيح نقطة مهمة، أن المشروعات المتناهية الصغر، هى التى تحتاج الى تمويل ما بين مليون وعشرة ملايين جنيه!! وتتطلب إجراءات كثيرة تضمن للبنك المقرض أمواله.

تستورد مصر يوميا بمبالغ كبيرة من العملة الصعبة، كميات كبيرة من الخامات الوسيطة التى تدخل فى الصناعات النهائية المنتجة على أرض مصر.أعطى مثالا للتوضيح، عندنا عدد كبير من مصانع السيارات، اتفاقيات الشراكة بين المصنع «الأم» والمصنع الوكيل فى مصر، تلزم المحلى بعدم تجاوز نسبة معينة من التصنيع الداخلى تختلف من شركة لأخرى.

ومع ذلك تستورد المصانع المحلية، بعض المنتجات بسيطة الصنع، مثل «الأكر» الداخلية لأبواب السيارات، ولم نر محاولة لتصنيعها فى مصر، وعندما سألت أحد كبار تجار قطع الغيار، أصابتنى إجابته باندهاش كبير، حين قال، إن تكلفة تصنيع هذه «الأكرة» أقل بكثير من استيرادها! فقلت و لماذا لا نصنعها، فكانت المفاجأة فى البيانات التالية.

إنتاجها، يحتاج لمصنع صغير وعدد من الماكينات، إضافة للمادة الخام التى يسهل الحصول عليها بسعر جيد، التكلفة الإجمالية لهذا المشروع لن تتجاوز المليون جنيه، فقلت له إن المبلغ المطلوب ليس كبيرا، ويمكن الاستفادة من دعم المشروعات الصغيرة، فقال لى لا املك الضمانات التى يطلبها البنك، خاصة أنى حاولت التواصل مع بعض مصانع السيارات لعرض الفكرة، ولكن لا حياة لمن تنادى!

وبعد أن نعرف كم الدولارات الذى يمكن أن يتم توفيرها من أنتاج هذا الصنف فقط، فماذا سنفعل إن عرفنا أن هناك عشرات من الأصناف يمكن الاستغناء عن استيرادها تماما، ليس فقط فى صناعة السيارات ولكن فى صناعات كثيرة غيرها، فما المانع؟

يتلخص المانع فى أننا نسير بنفس النهج المتبع، بنوك تعمل على تعظيم ربحيتها، دون النظر لأية عوامل أخرى، ومسئولون غارقون فى أعمالهم، لا يجدون فرصة للتأمل!

ببساطة ووضوح، تملك مصر مئات الآلاف من الصناع المهرة، يحتاجون لمن يتولاهم برعايته، يدرس حالتهم، ويصنف مهاراتهم، ثم يجمعهم كيان مستقل يتفاوض باسمهم مع البنوك لتوفير قروض ميسرة وفق الظروف المتاحة، علما بأنه يمكن أن تتولى البنوك شراء احتياجاتهم، حتى تتأكد من جدية العمل.

البدء فى انجاز الفكرة، ينقلنا خطوات نحو أفق جديد، من خلاله نوفر العملة الصعبة، بما يوصلنا لارتفاع قيمة الجنيه مرة أخرى، وما يؤديه ذلك من آثار ايجابية على الوطن والمواطن.

ولكن قبل ذلك لابد من تحرير العقول الساكنة، التى ألفت الوضع القائم، وتخشى الدخول فى تطويره لما يمثله ذلك من جهد غير مجز، لاسيما و نحن نملك من الطاقات والقدرات ما يتيح لنا تحقيق طفرة ملموسة فى مجال التمنية الصناعية، طفرة، تقلل نسب البطالة، وكذلك تعظم فرص الاستثمار المتاحة، طفرة، تتيح للقطاعين الصناعى و المصرفى الفرصة لتحقيق نهضة اقتصادية واعدة، إذا أحسنا التعامل معها.

وللحديث بقية..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف