الأهرام
د. فوزى فهمى
الوطن خصوصية ومعنى وليس سلعة!
صحيح أن رهان إسرائيل الذي تصر عليه، يتبدى في أن حل صراعها الجغرافي مع الفلسطينيين، لا بد أن يتم على حساب الحقوق الوطنية جغرافيًا للدول العربية المجاورة لها، وصحيح أنه يمثل رهان الاستحالة، لكن الصحيح أيضًا أن إسرائيل والولايات المتحدة تصران على التشبث بخرق الاستحالة، وذلك بإقصاء الدول المجاورة عنفًا أو تطويعًا، لتكون في موقع التلقي فتنزاح عن أوطانها جغرافيًا، هتكًا لمقدساتها دون تحفظ، انصياعًا وتفريطًا واستسلامًا لهيمنة الأمركة، لتستحوذ ربيبتها إسرائيل على ما تريد بطرد الحقائق وتجاوزها، حيث المطروح يعد حلاً وحيدًا، يتحرك في مخيال الأمركة وإسرائيل، ويمتطي صهوة العماء عن حقوق الآخرين، ويفرض نفسه على كل تراث مفهوم الوطن عبر التاريخ؛ إذ الوطن يلتصق دون حجب بوجدان مواطنيه، وغير قابل للنسيان؛ بل يتصدى المواطنون بأرواحهم دفاعًا عنه، حيث يصدح رفض الوطن مجلجلاً فوق أحجار كل طرقاته رافضًا اغتصابه، وسقوط تاريخه معتصمًا بمواطنيه لحمايته من أن ينقطع تاريخه، في ظل هيمنة تحاول أن تبدد وجوده لتدفعه إلى العدم، حيث في عصر الحياة السائلة هبطت المفاهيم والقيم والمعاني المتحصنة بسموها، وأصبحت في مرمى سهام عالم الواقع، فإذ بها تفقد صلابتها لترتبط بمجهولها المستقبلي، فراحت تحتضنها السوق وتستحوذ عليها لتصبح سلعًا، وهكذا صارت الأوطان سلعًا للتبادل بيعًا وشراءً، ولم تعد الهوية التزاما نهائيا محصنًا، وكذلك أصبح مستقبل شعوب العالم ساحة مفتوحة أمام الدول الكبرى، التي راحت تستلب منها ما لا تملكه لتبيعه لمن تريد وفقًا لمصالحها، ففي عام 1917 منحت بريطانيا بسلطانها الإطلاقي لليهود أرض فلسطين لإقامة كيان لهم على ترابها، وهو منعطف يعكس ممارسات الدول الكبرى في استرقاق الشعوب، فقد كانت بريطانيا ترى أن بقاء اليهود على أرضها غير مرغوب فيه؛ لذلك فقد تضمنت توصيات مؤتمر لندن الاستعماري عام 1907، التي قدمها المؤتمر إلى رئيس الوزراء البريطاني وقتذاك: «ضرورة إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط بين أوروبا والعالم القديم، ويربطهما معًا بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة تضمر العداء لشعب المنطقة، وتربطها صداقة بالدول الأوروبية ومصالحها، وهو التنفيذ العملي العاجل». ترى أي مسئولية قادرة على معادلة ما اقترفته بريطانيا في حق الشعب الفلسطيني؟

صحيح أن ثمة صيغة واحدة للتعامل مع الشر، وهي أن تكون وسيلته، أو ضحيته، أو هما معًا، وصحيح أيضًا أن استمرار المساعي الإسرائيلية وتعددها لم يتوقفا لتجاوز حل الدولتين لعقيدة إسرائيل بأن المستحيل يمكن أن يغدو بالتحايل ممكنًا؛ ولأن حل الدولتين يمثل لإسرائيل مأزقًا سيستمر، ولا يسجل لها حقيقة اجتياحها الجغرافي لدولة فلسطين وإقامة دولتها منفردة، فراحت إسرائيل تمارس سرقة مفهوم الدولتين من بنيته الأصلية التي نشأ عنها أساسًا، نتيجة منح بريطانيا الوطن الفلسطيني لإسرائيل ليكون وطنًا لها؛ لذا جاء حل الدولتين مرتفقًا بحق العودة للفلسطينيين إلى أرضهم لإقامة دولتهم عليها، لكن إسرائيل طرحت تجسيدًا بقناع جديد ومخالف؛ بل ينحر المفهوم الأساسي لحل الدولتين ويغتاله، لتبطل جغرافيا الأرض وتفوز بالوطن الفلسطيني وحدها؛ لذا عندما عرض المبعوث الأمريكي دنيس روس على الرئيس الأسبق حسني مبارك مليارات الدولارات، لتوطين الفلسطينيين في أرض سيناء، كان رد الرجل بالرفض القاطع لما عرض عليه، ثم عاودت واشنطن، وتل أبيب طرح المشروع على جماعة الإخوان المسلمين، غداة وصولهم إلى الحكم، وبزيادة لتلك المليارات من الدولارات فوافقوا عليه، لكن تصدى لمواجهة الشر ومشروعه وأقطابه، وأيضًا للموافقين عليه، الرفض المكتسح الحاسم من الجيش المصري، ووزير الدفاع آنذاك المشير عبد الفتاح السيسي، بوصف المشروع المطروح يعد خارج المشروعية، وينحرف إلى التفريط في أرض الوطن، متجاوزًا حقوق الشعبين المصري والفلسطيني؛ بل يقضي نهائيًا على حق عودة الفلسطينيين إلى وطنهم. هل الولايات المتحدة وإسرائيل لا تدركان أن المواطنة بنيان بشري يحمل شرعيته بذاته، وأن المواطنة بقدر ما هي خصوصية، وليست أداة انعزال، هي أيضًا إقرار بأن يكون للآخر حيزه وخصوصيته، فالمواطنة تستدعي مفهوم اللغة، والتاريخ، والجغرافيا؛ بل تظل ماثلة في أفق حاضر المواطن حتى وإن غابت الجغرافيا إقصاءً؛ إذ المواطنة هي الطاقة التي تمنح المواطنين اقتدار المقاومة والتحقق وجودًا؟ لكن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تريدان أن يكون للشعب الفلسطيني حيزه الوطني الخاص على أرضه، إذ إن كل المشروعات التي طرحت منذ عام 1953 حتى عام 2004، لم يحتضن أي منها رهان التقدم نحو حل القضية الفلسطينية، بتفعيل حق العودة؛ بل كانت مشروعات مضادة للحق الفلسطيني في العودة إلى أرضه، وتندرج كلها كممارسات باطلة تطرح خداعًا جاذبية الوهم المستقبلي للعوائد المفترضة لهذه المشروعات، التي تستهدف تهجير اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم في منطقة الشرق العربي، إعلانًا بأن حق العودة قد تبخر، حيث من البيت الأبيض عام 2004 أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش، ورئيس الوزراء الإسرائيلي شارون «إسقاط حق العودة وحدود 1967». إن الولايات المتحدة تملي على العالم صورة الغد، التي تجيء تكريسًا لواقع هيمنتها بوصفها القوة المسيطرة، دون إخفاءً لهذا الواقع، ثم يأتي إعلان الرئيس الأمريكي ترامب بأن القدس عاصمة لإسرائيل، هدمًا وتدميرًا لخصوصية كيان تاريخي وثقافي لدولة فلسطين بقرار أمريكي أحادي؛ بل إن تصريح الرئيس الأمريكي ترامب يؤكد أن استعادة حقوق إرث الماضي لا رجعة له، إلا لمن تسمح له الأمركة وفقًا لتواطئها ومعيارها النفعي؛ لذلك فإن خطة حل المشكلة الفلسطينية مع إسرائيل التي وضعها الجنرال جيورا أيلند الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والرئيس السابق كذلك لقسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي، قد انطلقت من تواطؤ استبدالي لجغرافيا الأوطان التي بحكم طبيعتها وقيمتها وتاريخها لا تستبدل. يتأسس المشروع على مضاعفة مساحة غزة، في سياق أشمل خداع مزدوج تسوغه أمريكا وإسرائيل كي يصدقه ضحاياه، وذلك بأن ينتزعا من مصر مساحة 600 كيلومتر مربع من أرض سيناء المصرية، بتبرير ضمها إلى غزة، لتكون وطنًا بديلاً للفلسطينيين بعيدًا عن حدود 1967 التي ترفض إسرائيل أمنيًا قبول الالتزام بها، وفي مقابل تفريط مصر بخسارتها هوية أرضها، وخسارة الفلسطينيين لوطنهم واستيلاء إسرائيل عليه، تحصل مصر على 200 كيلومتر مربع من صحراء النقب، وينتهي بذلك الصراع. وكأن الوطن ليس خصوصية ومعنى وانتماء لدى الإنسان بوصفه كائنًا معنويًا؛ بل سلعة للتبادل لدى بشر بوصفهم كائنات عضوية، تحركها آلية تفكير عنصري شمولي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف