الدستور
أشرف عبد الشافى
المرأة اللعوب.. والأب الشاذ
طب والأب اللى محروم من رؤية أولاده تقول عنه إيه يا أستاذ؟ والأب اللى متهم قدام ولاده بإنه شاذ أو حرامى مرمى فى السجن تقول عنه إيه؟ ولّا الستات بس اللى غلابة ومظاليم من وجهة نظر حضرتك؟!
كان علىّ أن أستمع، رغم الحدة التى يتحدث بها، ورغم تلميحاته الخبيثة وسط الكلام عن انحيازى للستات، والمتحدث صديق قديم بحث عن رقم هاتفى بعد أن قرأ مقال «فتاة صغيرة توجع القلب»، الذى تحدثتُ فيه عن الآباء «الأندال» الذين يطفشون فجأة تاركين خلفهم أبناء وبنات تتكفل برعايتهم أمهاتهم، وعاتبنى بشدة على عدم الاهتمام بالجانب الآخر من القضية، فليست كل أم تراها تحمل هموم أولادها بمفردها ضحية لزوج جاحد وجبان! فقد تكون هى أكثر ظلمًا وعدوانًا وقسوة، وقال إنه أب لطفلين محروم من رؤيتهما منذ عامين ونصف العام بالتمام والكمال بسبب عناد وجبروت أمهما، وهناك أب آخر أصيبت ابنته بصرع بعد أن أبلغتها أمها بأنها انفصلت عن والدها لأنه «شاذ» جنسيًا! وإن كل القوانين والأعراف فى مصر تمارس القهر والظلم ضد الآباء المحرومين من رؤية أولادهم، وإنه بصدد تأسيس جبهة تجمع كل هؤلاء الآباء لتعديل قوانين الأحوال الشخصية فيما يخص «الرؤية والحضانة»، فالقانون لا يفرض عقوبة على المرأة حال عدم تنفيذها أحكام رؤية الطفل، فى حين يحبس الأب عند عدم دفع نفقات الطفل.
وبينما يستفيض فى سرد نماذج لآباء يتم تشويه سمعتهم وتحقير شأنهم أمام أولادهم فى فترات الحضانة، ويستعرض تعديلات المجلس القومى للمرأة على قانون الرؤية، كان عقلى كله مشغولًا بـ«الطفل» الحائر الآن بين طرفين اتفقا يومًا على أن يُمسك أحدهما بأصابع الآخر! تبادلا معًا كلمات الحب والحنان والمودة، والتحمت أنفاسهما وجسداهما وجاءا بنطفة هى الآن حائرة تسأل: مَنْ الذى بدأ بتقبيل الآخر؟ ومَنْ وضع السُم فى فم الآخر؟
أنت أمام وضع بائس لا تصلح معه القوانين ولا الأعراف، هناك دائمًا طرف سينال من الآخر.. زوج «مغلول» سينجح فى كسر أنف مطلقته «بنت الكلب، الشرشوحة، اللى أهلها شوية جزم...»، وزوجة ستطفئ نار الغِل والكراهية وتنتصر على طليقها «الخيخة، العرة، الواطى، اللى ما بيعرفش يعمل حاجة...».
النجاح فى المعركة لن يكون سهلًا كما تظن، فاستخدام قاموس الشتائم الضخم لا يكفى، والطرف الذى سيصل إلى تركيع الآخر سيكون قد أخلص فى المعركة إخلاصًا منقطع النظير، وأبلى صبرًا لا يقل عن صبر أيوب، وكاد أن يصبح نبيًا لولا أنه أنفق نصف المعركة فى دفع الرشاوى والمحسوبيات والمواصلات والمشاوير والمحاكم والتوكيلات، والبحث المضنى عن محامٍ «عُقر» بدل «الحمار اللى معاه»، وكلّل كل هذا المشوار الطويل بالانتصار الساحق على خصمه!!
يحدث كل هذا بشكل يومى فى حياتنا، ولن يتوقف، وأمامنا سنوات طويلة حتى نلتفت إلى «الطفل الحائر الآن بين هؤلاء المتصارعين»، فأحد هؤلاء الأطفال سيحصل والده على حكم برؤيته، وسيذهب «طفل صغير» للقاء الأب فى مركز شباب بائس أو قصر ثقافة أو ساحة حديقة، وسيَمضى نصف الوقت المحدد للرؤية - حسب القانون - فى ارتباك بين أب كان يتصور أن تلك المآسى مقتصرة على المسلسلات والأفلام وطفل يشب على طرفيه ليحتضن شخصًا لا يعرفه إلا من أحاديث أمه إلى جاراتها أو خالاتها، وينتهى الوقت قبل أن يشعر بالدفء أو يفهم ما يدور، وطفل آخر ستنجح والدته فى انتزاع حضانته بحكم نافذ، لكنه سيتذوق معها مرارة الحصول على نفقة تسد الجوع وتُغنى ذل السؤال، وتتفرع مآسٍ أخرى ومئات القصص الدرامية التى تصل إلى الانتقام بالقتل والطعن وانتزاع القلب من مكانه.
العالم كله بقوانينه وأعرافه لن يُصلح قلب طفل أو طفلة تعيش واحدة من مآسى الطلاق فى مصر.. حولى وحولك عشرات يعيشون جانبًا منها، وكل طرف يرى نفسه صاحب الحق المجنى عليه، كل طرف يقول «عشان العيال»، والعيال لا أحد يهتم بشأنهم، لا أحد يريد الاعتراف بخطئه.. الرغبة فى الانتقام تختلط بدموع الندم والحسرة وتسيطر على الموقف فتحجب الرؤية تمامًا، والشراسة التى تنتهى إليها الحياة بعد الطلاق تحول بين الاهتمام بشىء سوى الانتصار فى المعركة، وتلك طبيعة النفس البشرية، فالإنسان الذى تفوّق على الحيوان فى صناعة أدوات الحياة بيديه وتمكن من بذر الثمار وحفر الترع والجسور، هو نفسه الذى أخضع الحديد فصنع السيوف والخناجر والبنادق والرشاشات، وتفوّق على أشرس الحيوانات فى الإبادة والدمار، والقوانين التى تمنح حقوقًا وتمنع أخرى لن تنجح فى علاج حيوانية الإنسان، والقوانين التى تمنع «الجدات» من رؤية الأحفاد إلا بعد وفاة الأب لن تصنع لنا جيلًا أفضل، والتشريعات والفتاوى لن تُصلح قلبين أو جسدين ظهرت عليهما أعراض الغِل والكراهية، ومهما كان الانتصار لطرف دون الآخر، فإن طفلًا سيبكى وحيدًا فى فصل المدرسة، وطفلةً ستبحث دومًا عن شىء ينقصها هنا أو هناك، والعلاج ليس فى يدى أيضًا، ولا أملك حلًا أمام كل هذه القوانين والتشريعات المتشعبة، ولن تنجح أنت أيضًا فى الانحياز إلى طرف من اثنين لا يتفقان على شىء سوى انتزاع حق وليس «طفلًا أو طفلة من لحم ودم»، كلاهما يطحن جزءًا من قلب صغير، كلاهما يتعمد قتل الحب القديم الذى جاء بهذا الطفل، فكيف يمكن إعادة قلب مات إلى الحياة؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف