الأهرام
عبد المنعم سعيد
النضال من أجل دولة طبيعية
كتبت كثيرا من المقالات خلال العشرين عاما الماضية، مطالبا أن تكون «مصر دولة طبيعية»، وكانت من الوفرة حتى إننى جمعتها فى مجلد كامل. لم يكن الأمر حلما على الطريقة المصرية، فلم أكن أحلم بعودة مملكة مصر والسودان، ولا أن تعود الحدود المصرية إلى ما وصلت إليه فى عهد تحتمس الثالث، ولا كنت من الحالمين باكتشاف مخزون هائل من النفط يجعلنا فى غنى المملكة العربية السعودية. كانت أحلامى كلها أن تكون مصر دولة طبيعية تتخلص من أمور تنفرد بها دون كل دول العالم مثل أن يكون هناك أسعار متعددة للعملة، أو يكون لديها نظام للثانوية العامة يختلف عن الذى يطبق فى غالبية دول الدنيا، أو تكون صحافتنا وإعلامنا مملوكة من الدولة، أو يكون لدينا بيروقراطية أضعاف احتياجاتنا، أو تقوم الدولة بإدارة الفقر وليس إدارة الثروة، وتنظيم استغلالها من خلال المواطنين. كانت قناعتى أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن بعده الكتلة الاشتراكية فى العالم فإن دول العالم أصبح فيها نوع من «النظام العام» للحكم والإدارة والتنظيم يمكن وصفه بالحالة الطبيعية للدول والذى لا يعنى بالضرورة التماثل أو التطابق فى كل شيء، وإنما تكون الفوارق نتيجة ظروف موضوعية لا يمكن تجاهلها. هذا النوع من الجهاد فى مصر لا يزال مستمرا مع قدر غير قليل من التفاؤل، لأن بعضا من أحلامى تحقق ولا يزال البعض الآخر على الطريق.

والحقيقة أن الحالة المصرية ذات «الطبيعة الخاصة» لم تكن هى الوحيدة فى منطقتنا، فقد كان الخروج على الحالة الطبيعية سمة عامة فى البلاد العربية وخاصة فى المملكة العربية السعودية حيث تفوقت الدولة فى الخروج على المألوف فى دول العالم، وكما اكتشفنا أخيرا ما كان مألوفا فى المملكة نفسها. الدولة الشقيقة على غير الحال فى الدول الأخرى كان لديها نظامان لكل شيء، فلديها الجيش والقوات المسلحة المعروفة ومعها قوات أخرى تساويها فى القوة هى قوات الحرس الوطني، ولديها الجهاز الأمنى المعروف فى كل دول العالم ومعها شرطة دينية موازية تحمى الشارع من انحراف متوقع. الجامعات كلها منقسمة إلى جامعتين، واحدة للذكور، والأخرى للإناث. الدولة تحذر طول الوقت من انفراد الرجل مع المرأة، ولكن المملكة تمنع المرأة من قيادة السيارات فتركبها مع وجود سائق حتى أصبح فى المملكة قرابة المليون سائق أجنبي. الغريب أن المملكة كانت لديها فى الخارج أكثر من 200 ألف طالب جامعى وطالبة جامعية يدرسون فى كل جامعات الدنيا الكبيرة ،حيث الطالب يدرس جنبا إلى جنب مع الطالبة. لسبب غير مفهوم فإن المملكة التى كانت تعرف دور السينما والمسرح قبل أربعة عقود، صارت فجأة مخاصمة لكل ما له علاقة بالترفيه، فبات السفر إلى العواصم العربية والأجنبية سُنة سعودية مع مطلع كل صيف حتى تكون الإجازة السعودية حقيقية بقدر ما فيها من ترفيه. اعتماد الدولة على منتج أو محصول واحد هو النفط وضعها ضمن ناد صغير من الدول غير الطبيعية التى وإن كانت لديها الغنى النقدي، فإن الإقامة فيها لم تكن طبيعية.

أصبحت السعودية دولة غير طبيعية وجرى تبرير الحالة تارة بالدين، وتارة أخرى بالأخلاق العامة، وتارة ثالثة، كما حدث فى دول عربية عديدة، بالثقافة العربية، والخصوصية والتفرد عن بقية بلاد الدنيا. العام الحالى 2017 سوف يسجل فى التاريخ باعتباره العام الذى بدأت فيه السعودية تتحول نحو الحالة الطبيعية، وفى بعض الأمور تعود إليها. وللحق فإن هناك بعض البدايات جاءت عندما تولى المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزير عرش المملكة عندما أنشأ الجامعة التكنولوجية التى كانت أولى الجامعات التى تستقبل الذكور والإناث معا. وفى عهده أيضا تم تقييد تجاوزات الشرطة الدينية أو ما عرفت بجماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ ولكن القفزة الكبرى فى المملكة جرت مع تولى الملك سلمان بن عبد العزيز للحكم ومعه ولى عهده الأمير محمد بن سلمان الذى بات أول الإشارات الكبرى على تولى جيل جديد للحكم فى الدولة. سوف نترك جانبا هنا ما يتعلق بقضية الخلافة فى المملكة التى شغلت العالم لوقت طويل، كما سوف نترك جانبا الأحداث التى توالت من الرابع من نوفمبر المنصرم رغم أهميتها التاريخية، ولكن ما يهمنا فى مقامنا هذا هو رصد تلك العملية الكبرى من تحول المملكة إلى دولة طبيعية ليس فقط تقود فيها النساء السيارات، أو يمكنها التمتع بالترفيه، وإنما أن تبدأ الدولة تدريجيا فى رفع يدها عن المواطنين، وإعطاء الفرصة للشباب السعودى لكى يسهم فى توليد وإدارة الثروة السعودية. توالت المشروعات المختلفة خلال العام الحالى تحت مظلة الرؤية السعودية 2030، والتى بالمناسبة جاءت بعد فترة قصيرة من إشهار مشروع مصرى مماثل. وبقدر ما كان تيار الإصلاح مؤثرا فى المنطقة كليهما ،وجوهره هو التحول إلى دول طبيعية، فإن حدوثه فى السعودية كان بمثابة «الثورة» فى بلد محافظ وتقليدي، ومغالى فى كليهما: المحافظة والتقليد.

القصة فى المملكة من المبالغة القول إنها وصلت إلى نهايتها، فرغم وجود تخطيط قوى للتحول من خلال مشروعات تشمل شركة «أورامكو» وإنشاء مدن جديدة مثل «نيوم»، واستغلال جزر قاحلة، فإن جوهر التحول إلى الحالة الطبيعية هى التحول من دولة المنتج الواحد إلى دولة متعددة المنتجات يقيمها ويبنيها شبابها الذين تتجاوز نسبتهم من السكان 70%. المشروع كبير وطموح، والمملكة إمكاناتها ومواردها كبيرة ومتسعة، فهى شبه جزيرة تطل على بحرين (الأحمر والخليج العربي) وتلتقى مياههما فى بحر العرب والمحيط الهندي، ومع ترسيم الحدود المصرية السعودية، فإن ما حصلت عليه مصر من منطقة اقتصادية شاسعة فى البحر الأحمر حصلت السعودية على مثله على شواطئها. وعلى هذا المسرح الواسع المتعدد الطاقات، فإن خروج الدولة من حالتها غير الطبيعية إلى الحالة الطبيعية التى يسودها اقتصاد السوق يضع السعودية على أول أبواب التقدم. والتقدم بالمناسبة درجة أعلى بكثير من الغنى ؟!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف