الأهرام
محمد ابو الفضل
درس نائب الرئيس الأمريكى
الزيارة التى كان من المتوقع أن يقوم بها نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس للقاهرة، كتب عليها الفشل مبكرا، الأمر الذى اضطره إلى تأجيلها رسميا، فمنذ إعلانها والرجل تقمص دور المدافع عن حقوق المسيحيين فى الشرق الأوسط، وأظهر وجها طائفيا فى وقت تعانى فيه المنطقة كوارث الطائفية، وتلاها قرار الرئيس دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.

الغضب الذى أثير بشأن موقف بنس من مسيحيى الشرق، لا يضاهى العواصف التى جاءت عقب قرار ترامب، فالأول ظل مكتوما، لأن بنس لن يستطيع فعل شىء حقيقي، لكنها رسالة رمزية كانت ترمى إلى الإشارة بأن الولايات المتحدة معنية بالمسيحيين فى المنطقة أكثر من غيرها.

أما الثانى فكان مقدمة وعنوانا للكشف عن موقف جهات كثيرة، رسمية وشعبية، من واشنطن، وحجمها الفعلى فى العالم حاليا، وهو ما كان سيضع بنس فى موقف حرج، إذا صمم على القيام بزيارته فى موعدها.

الشواهد التى تؤكد أن الولايات المتحدة مقبلة على مرحلة عزلة كثيرة ومتعددة، وقرار ترامب حول القدس قدم مبررات واقعية لهذا الاستنتاج، فمنذ صدوره فى 6 ديسمبر الحالى وتتوالى الانتقادات والإدانات، ربما يكون ترامب كسب المزيد من ود إسرائيل وخفف غضب اللوبى اليهودى عليه، لكن وضع نفسه وإدارته وكبار معاونيه محل اختبار، جاءت نتيجته سلبية بامتياز.

هناك مجموعة من المحطات السياسية تؤكد أن جولة نائب الرئيس الأمريكى لكل من مصر وإسرائيل فى هذه الأجواء، محكوم على نتائجها بالفشل، لذلك ليس مهما التوقف عند القضايا التى كان سيناقشها فى القاهرة، لأن ملامحها واضحة سلفا، وتضعها فى خانة الزيارات البروتوكولية، التى لن تقدم أو تؤخر فى طبيعة العلاقات الثنائية.

المحطة الأولى تتعلق بإعلان البابا تواضروس رفض لقاء مايك بنس خلال زيارته القاهرة، وهى رسالة تحمل معنى مزدوجا، أحدهما، أن الكنيسة المصرية ليست بحاجة لمواعظ أمريكية جديدة، وتبغض من يدافع عنها، لأنها جزء من النسيج المصري، وتخوض معارك الوطن وتنخرط فى همومه وتتحمل أعباءه، والآخر أن القدس المحتلة مكان له قدسية مشتركة، عند المسلمين والمسيحيين، وقرار ترامب أضر بهما معا، ولابد أن تتحمل الإدارة الأمريكية تبعات موقف رئيسها.

المحطة الثانية، تخص رفض الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر لقاء مايك بنس أيضا، والأهم صدور بيان قوى ضد التصورات الأمريكية، يؤكد أن الأزهر لا يتورع عن الدفاع عن القضايا المصيرية، ما يشى بأن ثمة خطوات شعبية يمكن اتخاذها تفرغ قرار ترامب من مضامينه السياسية.

المحطة الثالثة ذات أبعاد فلسطينية، حيث رفض الرئيس محمود عباس (أبومازن) استقبال نائب الرئيس الأمريكي، الأمر الذى دفع بنس إلى إلغاء زيارته إلى رام الله، وتعديل جدوله، من البدء بإسرائيل إلى تحويل دفته لمصر، ثم تأجيل الجولة برمتها، فى محاولة لتخفيف حدة الغضب فى الشارع العربي، والفلسطينى بشكل خاص، لكن الأزمة ازدادت تعقيدا واشتعالا.

الرئيس أبومازن دعا إلى تفعيل المقاومة الشعبية، واعتبر بدء زيارة بنس للمنطقة يوم غضب عربى وفلسطيني، وقرر التوجه بطلب عضوية كاملة لدى الأمم المتحدة، والتوقيع على الانضمام إلى 22 منظمة ومعاهدة دولية.

ربما يتعامل أبومازن مع الأزمة من زاوية تحقيقها جملة من الفوائد السياسية له، قد توفر له طاقة أمل لتخفيف حدة مشكلاته الداخلية، لكن الرجل يريد استثمارها وتوظيفها بواقعية وبطريقة يمكن أن تمنحه قدرة لاستعادة الزخم والتأثير فى مصير القضية الفلسطينية، التى كاد النسيان يطويها، حتى ضخ ترامب دماء جديدة فى شرايينها تعيدها للحياة، وتجعلها ملء السمع والبصر فى العالم الآن.

المحطة الرابعة، ذات أبعاد دولية، فمشروع القرار الذى تقدمت به مصر لمجلس الأمن السبت الماضي، ودعا إلى إلغاء أى قرارات أحادية تتعلق بوضع مدينة القدس، استخدمت معه الولايات المتحدة، الاثنين، حق النقض (فيتو) لتعطيله، بعد حصوله على تأييد 14 دولة عضوا فى المجلس.

ما يعنى أن واشنطن لم تجد مفرا لانقاذ ماء وجهها سوى «الفيتو»، الذى يؤكد أن العالم لم يعد يحتمل التصرفات الأمريكية الأحادية، وتجلت معالم الرفض منذ صدور قرار ترامب مباشرة، عندما أكدت دول عديدة أن المفاوضات السبيل الوحيد لحسم مصير القدس.

الردود الغاضبة والرافضة والناقدة للخطوة الأمريكية، أجبرت مايك بنس على تأجيل زيارته لمصر إلى يناير المقبل، وحاول يعطى إشارة أن ذلك لا علاقة له بالقدس، وساق مبررات تحصر المسألة فى أمور داخلية، ونسى أن العالم أصبح شاهدا على تزايد العزلة الأمريكية، فتأجيل الزيارة جاء عقب ساعات قليلة من تصويت 14 دولة فى مجلس الأمن ضد قرار ترامب.

فى كل الأحوال، أدرك نائب الرئيس الأمريكي، أن مهمته صعبة فى القاهرة، وسيكون كمن جاء ليسمع ويرى حجم الغضب المصري، الرسمى والشعبي، والذى تجلى فى بيانات الإدانة المبكرة، ورفض قوى سياسية للزيارة، ناهيك عن تبنى مصر مشروع قرار فى مجلس الأمن، وكلها ملامح جعلت دوائر كثيرة تتوقع فشل بنس فى تحقيق أى اختراق سياسى، والأفضل عدم الحضور فى هذا التوقيت.

المشكلة أن اتمام الجولة فى موعدها، وعقب زيارة ناجحة للرئيس فلاديمير بوتين للقاهرة، كان سيضع مايك بنس فى موقف غاية فى الحساسية، لأنه يجعل بلاده فى مقارنة مع روسيا ليست فى مصلحتها، وهى دلالة على ما يجرى من تغيرات فى موازين القوى بالمنطقة، وكفيلة للتأكيد أن هناك من يستعد لملء الفراغ الأمريكي.

كما أن الاحتفالات (الكرنفالية) التى تم تجهيزها للرجل فى القدس المحتلة، لن تعنى أنها فعلا عاصمة لليهود، ولن تغير طابعها الإسلامى والمسيحي، فلا تزال المعركة لم تحسم بعد، ولدى العرب والفلسطينيين أسلحة معنوية وسياسية قد تضاهى أسلحة إسرائيل الفتاكة، وكان الأجدى بالسيد بنس أن يلغى زيارته نهائيا لا يؤجلها، لأن الكثير من الأزمات على وشك الانفجار فى وجه واشنطن، وفى مقدمتها تراجع دورها المحورى فى عملية السلام التى احتكرتها لفترة طويلة، دون أن تجعلها تتقدم للأمام، وهذا من أهم دروس تأجيل زيارة بنس للقاهرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف